البراجماطية Pragmatism هي الفلسفة الوحيدة ذات الأصول الأمريكية الصِرفة. وهي في معناها البسيط هو احترام وتقديس كل ما هو عملي ويُفيد في الحياة اليومية لعموم البشر.
وفي ذلك ليس للدين أو الأصول العِرقية الأهمية القصوى. فأمريكا هي مجتمع تعددي بامتياز. ولا يعني ذلك نقاؤه من العُنصرية والتعصب، ولكن اعتبارات اللون والدين والأصل القومي تأتي في المقام الثاني أو الثالث، أو لا يكون لها اعتبار على الإطلاق.
فالأولوية في البراجماطية الأمريكية، هي أن الحلال والمقبول والمرغوب هو ما ينفع الناس، ويجعل حياتهم أكثر يُسراً، وأكثر سُرعة، وأكثر عائداً، مادياً أو معنوياً. تلكم هي الفلسفة البراجماطية الأمريكية.
ولكن ليس هو الحال في القارة الأوروبية، ولا هو في بقية العالم كلما اتجهنا شرقاً. ولذلك ظلت المعارضة الأوروبية، لقبول تركيا عضواً كاملاً في المؤسسات الأوروبية لغزاً استعصى فهمه واستيعابه في أمريكا التعددية. فأوروبا تعتز بتراثها المسيحي، حتى لو كان معظم الأوروبيين غير متدينين، كما يشهد على ذلك تناقص أعداد منْ يتوجهون إلى الكنائس في أيام الآحاد، وعرض معظم الأبنية الكنسية للبيع، أو تحويلها إلى مدارس، وجامعات، أو مراكز تجارية.
المهم لموضوعنا، هو أن تركيا، بحجم سُكانها الذي يتجاوز المائة مليون في جزئيها الأسيوي والأوروبي، فضلاً عن حوالي ثلاثين مليون أوروبي مسلم، ومع مُعدل الخصوبة الأعلى لهؤلاء المسلمون الأوروبيون، خلق هاجساً صامتاً في معظم البُلدان الأوروبية، باستثناء بلغاريا، الذي يُجاهر زعيمها أوربان، بالتعبير علناً عن هذه الهواجس الأوروبية.
ولكن لأن السياسة في النهاية هي ترتيبات وتوازنات مصالح، فقد تغلبت المصالح الاستراتيجية على الهواجس العِرقية والدينية لدى معظم الأوروبيين، وجبّ الخوف من روسيا، وخاصة بعد اجتياحها لشبة جزيرة القرم، ثم غزوها واحتلالها لعشرين في المائة من أراضي جارة أوروبية أخرى هي أوكرانيا، أعاد الملف التركي إلى بؤرة الاهتمام. ولأنها عضو أصيل ومؤسس لحِلف شمال الأطلنطي (الناتو)، وضمن قواعد ذلك التحالف ألا ينضم أعضاء جُدد إلا بالموافقة الإجماعية لكل دول الحِلف، وكانت هناك رغبة مستجدة لبلدان ترغبان في الانضمام للحِلف، وهما السويد وفنلندا، المجاورتان لروسيا، فقد ظلت تركيا متحفظة في الموافقة على انضمام السويد!
أما لماذا ذلك التحفظ؟ فلأن السويد كمجتمع ديمقراطي مفتوح، فقد قصده معارضون سياسيون من كل دول الجنوب، بما في ذلك من أبناء تركيا، الذين ينتمون للعِرقية الكُردية، والذين لم يتوقفوا عن محاولة سلخ الأجزاء الكُردية، من كل من تركيا، وإيران، والعِراق، وسوريا، لإنشاء وطن ودولة كُردية مستقلة.
ولأن الجزء الأكبر من الأكراد يعيشون في الرُكن الجنوبي -الشرقي من تركيا. وهي منطقة جبلية، وكانت خلال أكثر من سبعين عاماً، موطناً لحركات انفصالية -استقلالية، عن البُلدان الأربعة. ولكن كان أكبرها وأشدها شراسة في كُردستان التركية، ومساندة أكراد المهجر، وخاصة في السويد، لتِلك النزعات الاستقلالية الكُردية.
واستغل الزعيم التُركي الطيب أردوعان المطلب الأوروبي لضم السويد لحِلف شمال الأطلنطي، والذي لا بُد من الإجماع للموافقة عليه، لكي تُسلم السويد بعض الزُعماء الأكراد الذين يعيشون وينشطون فيها، وهو ما لا تستطيعه الحكومة السويدية الأكثر انفتاحاً وديمقراطية وإيواءاً للاجئين الأكراد، كما غيرهم من لاجئي العالم الثالث.
ولكن يبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير خارجيته، الأكثر مهارة ونشاطاً، منذ هنري كيسنجر، قد وجدا صيغة توفيقية، لتلبية بعض مطالب أردوغان، وبالتالي تخليها عن اعتراضها على انضمام السويد لحِلف شمال الأطلنطي. ويُقال أن ضمن ذلك تجميد المُعارضة الكُردية في السويد، ضد حكومة أردوغان.
وربما كان نجاح أردوغان في الانتخابات التُركية لفترة رئاسية ثالثة، في سابقة هي الأولى، منذ رحيل مصطفى كمال أتاتورك في أربعينيات القرن العشرين. وهو ما أعطاه ثقة في الداخل التركي، وعلى المسرح الإقليمي الدولي، ومكُنه من إنجاز تِلك الصفقة.
ولكن سيظل الهاجس الأوروبي قائماً من تزايد نسبة المسلمين عموماً، والأتراك خصوصاً في النسيج الأوروبي.
ولا تقل الهواجس الأمريكية البيضاء عن تِلك الأوروبية، بسبب تزايد نسبة أصحاب ذوي البشرة السمراء، من الأسيويين واللاتينيين الأمريكيون، ومن الأقلية الأمريكية -الأفريقية الزِنجية الأقدم، والذين يُشكّلون معاً حوالي أكثر من نصف سُكان الولايات المتحدة السمراء. ومرة أخرى مع ارتفاع نسبة خصوبة هذه العِرقيات، مُقارنة بالمجموعة الأنجلوسكسونية البروتستانتية البيضاء الشقراء، فإن أمريكا بدورها تتجه إلى أغلبية سمراء في منتصف القرن الحادي والعشرين.
وربما كان انتخاب باراك أوباما كأول رئيس أمريكي (2009-2017)، وهو من أصول أفريقية مسلمة، أحد المؤشرات الرئيسية لهذا التغيير، وجاء انتخاب كامالا هاريس ذات الأصول الهندية -الأفريقية، كنائب رئيس مع جو بايدن في أخر انتخابات أمريكية 2020، لتؤكد هذا التحول إلى أمريكا سمراء، مثلها في ذلك مثل ما يحدث في أوروبا.
ومع الاحترام للمطرب الشعبي، محمد قنديل، الذي غنى منذ أكثر من نصف قرن: “جميل وأسمر”، يبدو أن العالم يمضى في هذا الاتجاه -حتى لو كان أسمر وجميل فقط، وبلا خلاخيل، كما ذهبت الأغنية الشعبية.
وهكذا يتغير العالم بطُرق لم يتنبأ بها، لا آلفين توفلر في كتابه “صدمة المستقبل” (1970)، ولا فرانسيس فوكوياما في مؤلفه الكلاسيكي “نهاية التاريخ” The End of History . وكأنما كانت الهند على موعد مع القدر لتُرسل هي بدورها أول سفينة إلى الفضاء الخارجي في أوائل يوليو 2023، لتُكمّل صورة هذا التحول الكوكبي العظيم، الذي تنتقل فيه عوامل الريادة والقيادة من الغرب والشمال، إلى الشرق والجنوب، وهو جزء من مكر التاريخ، والتاريخ أشد الماكرين. فلا حول ولا قوة إلا بالله. وعلى الله قصد السبيل