معجزات آل عمران (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) سبحانك تعلم ما فى صدورنا.. نبديه أو نخفيه.. وتعلم ما فى السموات والأرض، وأنت على كل شىء قدير. نواصل روحانيات الشهر الكريم، مع سورة آل عمران، حيث يحيط رسوله الكريم y علما بأخبار الأمم السابقة، ويخبره بقصص الأنبياء من قبله، خاصة زكريا ويحيى وعيسى، حيث تجلت قدرته عندما يقول للشىء كن فيكون.
سميت السورة الكريمة بآل عمران؛ لأنها تحكى قصص ثلاث أجيال من هذه الأسرة، السيدة البتول مريم ابنة عمران، الذى توفى والدها وأمها حامل، وقد وهبتها أمها لله عبدة صالحة واعذتها به من الشيطان الرجيم (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
وقصة نبى الله زكريا عندما لاحظ قدرة الله وكرمه بمريم التى يكفلها، ودائمًا ما يجد عندها كل أصناف الرزق بغير حساب (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
ثم قصة مولد نبى الله ورسوله سيدنا عيسى بن مريم، وكيف تجلت قدرة الله فى خلقه، كما فعل من قبل مع سيدنا آدم أبو البشرية كلها (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وسورة آل عمران من السور المدنية الطويلة، حيث تضم 200 آية، أغلبها خطاب الله إلى أهل الكتاب (التوراة والإنجيل) معاتبا ومحذرا، ثم ناصحا وموضحًا.. وأخيرًا منذرًا.
وتضمنت أيضًا آيات محكمات هن أم الكتاب، وآيات أخرى متشابهات، لا يعلم تأويلها الصحيح إلا الله سبحانه وتعالى، هو منزل القرآن على نبيه، وهو حافظه إلى يوم القيامة (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).
وفيها أيضًا ويحذركم الله نفسه، لأنه بصير بالعباد ورءوف بهم، ولا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).
كما جاءت الآيات مقارنة بين حب الدنيا وشهواتها وبين فضل الآخرة ونعيمها، فالبعض قد يحب النساء والأولاد والأموال والذهب والفضة والإبل والخيل، وكلها متع «مؤقتة»، بينما ينبئنا الله بالأفضل من ذلك، هو رضى الله والعيش المخلد فى جناته مع زوجات طاهرات (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ). ولكنى سأتوقف هنا عند حكمة النص وجمال العبارة وقوة الكلمة فى موقعها الصحيح من الآيات، حيث إنها دالة ومفسرة ومعبرة عن قدرة الله فى الظروف المختلفة، عندما تضرع النبى زكريا إلى ربه – وكان شيخا كبيرا وامرأته كانت عاقرا لا تلد – أن يرزقه الذرية الصالحة، وهو سميع الدعاء مستجيب له.
وفعلًا.. بشرته الملائكة وهو قائم للصلاة فى المحراب بولد اسمه يحيى، وأنه سيكون نبيًا وسيدا على قومه ومتفرغا لعبادة ربه.
هنا اندهش نبى الله زكريا، وتساءل: كيف يحدث ذلك وأنا شيخ عجوز وامرأتى عاقر.. فكان الجواب الحاكم القاطع (هو كذلك) أى أنها إرادة الله سبحانه وتعالى خالق كل شىء وأنه «يفعل» ما يشاء. أليس هو من «يصورنا» فى الأرحام كيف يشاء.
ومع ذلك أراد زكريا التأكيد على تحقيق أمنيته، وسأل ربه «آية» لذلك.. فأخبره أنه عندما تحمل زوجته بولد فلن يستطيع أن يكلم الناس إلا بالإشارة فقط ولمدة ثلاثة أيام متصلة، وعليه أن يذكر الله ويسبح بحمده فى الصباح والمساء (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ).
هنا جاءت كلمة «يفعل» لأنا بصدد علاقة زوجته قائمة ولكن هناك مانع من الخلفة والإنجاب، وهو كبر السن وعقر الزوجة، ولكنه سبحانه وتعالى قادر على تغيير الحال، وتفعيل قدرتهما على الإنجاب، وهو ما حدث فعلا ورزقهما بيحيى نبيا وسيدا وحصورا.
وعندما استجارت مريم بربها وتسألت: كيف تلد غلاما ولم تتزوج ولم يمسسها بشر، وقد أحصنت فرجها، كان الجواب المباشر (كذلك الله يخلق ما يشاء)، ثم الشرح والتكملة بأنه إذا قضى أمرا فإنما يقول له (كن فيكون) سبحانه وتعالى.
هنا جاءت كلمة أو لفظ «يخلق» لأن عوامل الحمل والإنجاب غير متوفرة، فمريم شابة بتول غير متزوجة ولم يمسسها بشر، ولكنها إرادة الله وعلمه المسبق بما سيحدث.
لقد بشرت الملائكة مريم بأن الله اصطفاها وطهرها واختارها من أفضل نساء العالمين، وطلبوا منها أن تحمد ربها وتسجد وتركع له، خاصة أنها من أسرة مصطفاة، وأنها ابنة عمران، أخت هارون، قد كانت أمها نذرتها لربها محررة وأعذتها بها وذريتها من الشيطان الرجيم.
كل ذلك جعلها هى وابنها معجزة من معجزات الله، حيث بشرتها الملائكة بأنها ستلد طفلا جميلا سيكون وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين وسيكون من الصالحين ويكلم الناس وهو طفل ورجل (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ). كل هذا لأنها إرادة الله أن يكون رسولا إلى بني إسرائيل بعد أن علمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. وعندما حدث طلب عيسى منهم أن يصدقوه وأن يعبدوا الله ربه وربهم،
وأن الله زوده ببعض المعجزات، حيث ينفخ فى الطين فيتحرك كالطير، ويشفى الأكمة ويبرئ الأبرص، ويحيى الموتى بإذن الله وبمشيئته، وأنه يستطيع أن يخبرهم بما يدخرونه فى بيوتهم وما يأكلونه فكلها «آيات» من الله على صدقه وأنه رسول الله وعليه تبليغ الرسالة وعليهم الطاعة (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ).
نعم لقد «خلق» الله عيسى بكلمة منه، وكما فعل من قبل مع أبو البشر سيدنا آدم، إذ خلقه من تراب، ومن ثم كانت كلمة «يخلق» فى موضعها معبرة وكاشفة عن قدرة الله سبحانه وتعالى الذى خلق كل شىء ثم استوى. نعم إن هذا القرآن بيان للناس، وهدى وموعظة للمتقين. وسبحانه القائل: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).