دعم الوحدة الوطنية: عصر ذهبي للمصريين الأقباط
د. سعد الدين إبراهيم
كانت البداية الرمزية لتأكيد ودعم الوحدة الوطنية المصرية يوم 7 يناير 2014، حينما فاجأ الرئيس عبد الفتاح السيسي تجمع الأقباط في الكاتدرائية المُرقسية، في سابقة تاريخية لرئيس مصري مسلم، حضور قداس أقباط مصر بعيد ميلاد يُشاركهم فيه رئيس جميع المصريين.
وكانت تِلك البادرة رسالة واضحة وعالية الصوت لكل منْ يهمهم الأمر في الداخل والخارج، بأن عهداً جديداً من المساواة الفعلية بين كل أبناء مصر، بصرف النظر عن أصولهم العِرقية أو فروعهم الطائفية والمذهبية. وفي ذلك كان السيسي يستدعى أحد القيم الأساسية في التاريخ المصري الحديث، وهي قيمة المواطنة، التي جوهرها أن كل منْ وُلد على أرض مصر، هو مواطن له كل حقوق وواجبات الإنسان المتساوية، مع بقية من وُلدوا على نفس الأرض،
وهي القيمة التي رسختها روح كل الأديان، فضلاً عن تأكيدها وترسيخها منذ عصر النهضة في أوروبا، والثورات الإنجليزية، ممثلة في العهد الأعظم (الماجنا كارتا، Magna Carta، 1215م)، بل وصحيفة المدينة، والتي أعلنها الرسول محمد (صلي الله عليه وسلم) كعهد بينه وبين المهاجرين والأنصار، قبل ذلك بخمسة قرون (665م).
أي أن عبد الفتاح السيسي، وهو يؤكد سلوكياً تِلك القيمة، أي المواطنة المتساوية لكل المصريين، كان يستند في الواقع على فهم عميق للدين، وعلى ممارسات عملية لآباء روح النهضة المصرية الحديثة، وخاصة تِلك التي أرستها ثورتهم المجيدة عام 1919، والتي رفعت شعار وحدة الصليب والهلال، والتي عبّرعنها أمير الشُعراء أحمد شوقي في بيته الأشهر: “الدين للديّان، جل جلاله، لو شاء ربُك وحّد الأديان”.
ولم يكتفي عبد الفتاح السيسي بالسلوكيات الرمزية لتكريس الوحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين، في الأعياد والمناسبات الدينية، ولكنه أكد تِلك القيمة عملياً، على النحو التالي:
تعيين أكبر عدد من المصريين الأقباط في مواقع ومناصب سيادية هامة، مثل المحافظين والقُضاة، والسُفراء، والوزراء.
استحدث السيسي ممارسة إطلاق بناء الكنائس، وتقنين ما كان يستخدم من أندية لتعبد الأقباط، بينما يُصدر قانون موحد لبناء دور العبادة لكل المصريين، مسلمين ومسيحيون، وأصحاب ديانات أخرى.
ولكي يُجسم تلكما القيمة والممارسة، وجّه الرئيس السيسي بأن يتم بناء أكبر كنيسة، وأكبر مسجد، في أحد ميادين العاصمة الإدارية الجديدة، وهو ما تحقق بالفعل، وتم افتتاحهما بحضور البابا تواضروس، والشيخ أحمد الطيب إمام الأزهر الشريف.
وربما لكل تِلك التأكيدات الرمزية والممارسات العملية، تأثيرها المباشر وغير المباشر على تدعيم الوحدة الوطنية، والوئام الطائفي، والذي تجلى في تقليص، وربما إختفاء المواجهات الطائفية، والتي كانت تحدث بمعدل خمسين مواجهة، تستوجب تدخلاً أمنياً، خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
وقد نزلت تِلك السياسات والممارسات السيساوية برداً وسلاماً على قلوب ونفوس الأقباط المصريين في الداخل والخارج.
وتجلى ذلك في احتفاء المصريين الأقباط في المهجر بالرئيس عبد الفتاح السيسي في زياراته للعواصم الكُبرى في الغرب الأوروبي والأمريكي، بينما كانت المظاهرات الاحتجاجية تحدث في تِلك العواصم عند زيارة كبار المسئولين المصريين لها.
كما تجلت مظاهر ذلك الوئام في بناء كنائس جديدة في مُدن المهجر، ومشاركة السُفراء والقناصل المصريين في افتتاحها، عادة في حضور بابا الأقباط، أو منْ يُنيبه من أساقفة ومطارنة.
وقد تجاوز عدد كنائس المهجر خمسمائة كنيسة، وهو عدد غير مسبوق في التاريخ. أما في الداخل المصري، وطبقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فقد أصبح عدد الكنائس أيضاَ غير مسبوق في التاريخ المصري، في كل العصور.
والمعاني التي أرساها السيسي في هذا الصدد، هو أن الدين فعلاً، كما قال شوقي، قبل مائة عام، هو للديّان، فلو شاء الله لكان قد اكتفى بديناً واحداً، أو وحّد ما هو موجود منها بالفعل.
ولكن الله خلقنا أمماً وشعوباً مختلفة، لنتعارف ونتعايش، ولنعبده ونسبح بنعمه، وجعل معيار التفضيل بين البشر، هو التقوى لله، والعمل الصالح: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
وفي تِلك الآية الكريمة، لم يخص الله سبحانه وتعالى أصحاب أي دين، ولكنه وجّه الخطاب للبشر جميعاً، وجعل القرب من الله يحكمه معيار واحد، وهو التقوى، أي الإيمان به والتسبيح بحمده.
ومن الواضح من سلوكيات الرئيس السيسي أن ذلك هو فهمه للدين عموماً، وللإسلام خصوصاً، فلا تفريق أو تمييز بين المواطنين إلا بعملهم وإنجازاتهم.
ويبدو أن ذلك الإدراك قد بدأ معه مبكراً بحكم النشأة في أحد أحياء مصر الشعبية، قرب أحد القلاع الإيمانية الدينية، وهي الأزهر الشريف.
كما أن تربيته المهنية العسكرية، التي تقوم على الانضباط والإنجاز، قد أسهمتا في تكوينه الشخصي، وأسلوب أدائه، وتعامله مع الآخرين، مصريين، مسلمين ومسيحيين ويهود، وأصحاب ديانات أخرى. ولم يكن ذلك الفهم وما ترتب عليه من مُعاملة متساوية للمصريين الأقباط فقط، ولكن أيضاً لأصحاب الديانات والمِلَل الأخرى، ومنهم البهائيون، وكل الفرق الشيّعية. وهو ما أسهم في دعم الوحدة الوطنية للمصريين جميعاً.
ولذلك ساد الوئام والسلام بين كل عناصر المجتمع المصري. ويندر الآن (في الرُبع الأول من القرن الحادي والعشرين)، أن نسمع أو نقرأ عن فتنة طائفية، بعكس الرُبع الأخير من القرن العشرين، حيث رصد مركز ابن خلدون ما بين عشرين وأربعين توتراً أو مواجهات أو اضطهادات طائفية.
ولذلك يحق لأقباط مصر، من كبير أساقفتهم إلى أبسط مواطنيهم في قُرى صعيد مصر أن يأمن ويهناً بحياته ودينه، أو ما يصفه بعضهم أنه عصرهم الذهبي. والله أعلم
وعلى الله قصد السبيلs