تحالف كيم – بوتين أشعل فتيل النووي
كمال جاب الله
كاتب صحفي ومحاضر جامعي
مخاطر إعلان التوقيع على معاهدة الدفاع المتبادل بين كوريا الشمالية وروسيا، النوويتين، تستحق التعامل معها بجدية، ولا تتحمل الاستغراق في سرد تفاصيل مملة، بهدف إلهاء الرأي العام العالمي، من نوعية قائمة العشاء الرسمي المقدمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المتضمنة مختلف الأطباق الفاخرة مثل: الكمأة وجراد البحر وكبد الأوز والجنسينج، إضافة لمنحه عطايا كالسيارة “أوروس”، وهي النسخة الروسية من “رولز رويس”،
يقابلها قيام الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون بإهداء نظيره الروسي كلبين للصيد من سلالة “يونجسان”، ولا حتى حالة الطقس التي بلغت حرارتها 29-30 درجة (!) في أثناء زيارة نادرة- ومثيرة- قام بها بوتين لبيونج يانج الأربعاء الماضي، واستغرقت 21 ساعة فقط.
بيونج يانج وموسكو وقعتا رسميا معاهدة -مثيرة للجدل- بشأن الشراكة الإستراتيجية الشاملة، وكشفت وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية عن النص الكامل للمعاهدة باللغة الكورية، ويمكن النظر إلى المادة 4 المكونة من 23 بندًا على أنها تبرر التدخل العسكري التلقائي، في حال وقوع هجوم على أي من البلدين، ومن شأن ذلك أن يرقى إلى استعادة التحالف الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة، للمرة الأولى منذ 28 عامًا، بعد إلغاء معاهدة الدفاع المشترك في عام 1996.
جاء في المعاهدة: “إذا تعرض أحد الجانبين لحالة حرب بسبب غزو مسلح من دولة منفردة أو عدة دول، فإن الجانب الآخر يقدم المساعدة العسكرية وغيرها من المساعدات دون تأخير، من خلال تعبئة جميع الوسائل التي بحوزته، بما يتماشى مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة وقوانين كوريا الشمالية والاتحاد الروسي”.
ذكرت الوكالة الكورية الشمالية أن المعاهدة الجديدة تطور العلاقات بين بيونج يانج وموسكو إلى “مستوى التحالف الذي لا يقهر”وتلزم الطرفين بعدم توقيع معاهدات مع دول ثالثة تنتهك المصالح الأساسية للطرف الآخر، أو تشارك في مثل هذه الأعمال، كما نصت الاتفاقية على التعاون في مجالات التجارة والاقتصاد والاستثمار والعلوم والتكنولوجيا، بما في ذلك تعزيز التبادلات والأبحاث المشتركة في مجالات الفضاء والطاقة النووية السلمية،
وهو ما يثير احتمالا بأن تقدم روسيا دعما فنيا أكثر نشاطا لإطلاق أقمار الاستطلاع الاصطناعية الكورية الشمالية.
لأن كوريا الشمالية من المفترض أنها تخضع لعقوبات دولية صارمة، منصوص عليها في قرارات صادرة من مجلس الأمن الدولي، نتيجة لتطوير برامجها الصاروخية والنووية بشكل غير مشروع، وكذلك الحال بالنسبة لروسيا، التي تتعرض لضغوط- داخلية وخارجية- هائلة بسبب عمليتها العسكرية في أوكرانيا، فقد طالب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، موسكو بالامتثال لقواعد العقوبات المفروضة على بيونج يانج، وقد أقرتها روسيا، في 6 قرارات لمجلس الأمن بأرقام: 1718، 1874، 2094، 2270، 2321، 2375، مؤكدًا “أن أي علاقة تربط أي دولة مع بيونج يانج، يجب أن تلتزم تمامًا بتلك العقوبات”.
الزعيم كيم علق على الاتفاقية بأن وضع كوريا الشمالية وروسيا في بنية الجغرافيا السياسية العالمية قد تغير، وأن الاتفاقية ستساعد في وجود عالم متعدد الأقطاب، مؤكدا أن ترقية العلاقات مع روسيا إلى مستوى التحالف يتناسب مع العصر الجديد.
في الوقت نفسه، أكد الرئيس بوتين إن روسيا وكوريا الشمالية تعارضان استخدام العقوبات بدوافع سياسية، وهي لا تؤدي إلا إلى تقويض الوضع الدولي. وقال: “أود أن أشير إلى ضرورة إعادة النظر في نظام القيود لأجل غير مسمى، النظام الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على كوريا الشمالية، والذي تم بإلهام من الولايات المتحدة وحلفائها، يجب أن تتم مراجعته”،
موضحا أن -ما أسماه- الكليشيهات الدعائية التي يكررها الغربيون بكثرة لم تعد قادرة على إخفاء خططهم الجيوسياسية العدوانية، بما في ذلك في منطقة شمال شرق آسيا.
أشار بوتين إلى أن بلاده تدرس إدخال تعديلات محتملة في عقيدتها بشأن استخدام الأسلحة النووية، وأن موسكو لا تحتاج لتنفيذ ضربة نووية وقائية.
بوتين حذر سول بأنها سترتكب خطأً كبيرًا إذا زودت أوكرانيا بأسلحة فتاكة، وأضاف: “هذه ليست مجرد تصريحات، هذا يحدث بالفعل، هذا انتهاك صارخ للمواثيق الدولية التي تتحمل الدول الغربية مسئولية الالتزام بها”، وأشار الرئيس الروسي إلى أن تقييمات موسكو وبيونج يانج بشأن الأسباب الجذرية لتصعيد التوتر العسكري والسياسي متطابقة.
وأضاف أن سبب ذلك هو سياسة واشنطن الاستفزازية التي توسع بنيتها التحتية العسكرية في مناطق مختلفة من العالم والتي تترافق بزيادة كبيرة في حجم وكثافة التدريبات العسكرية المختلفة بمشاركة كوريا الجنوبية واليابان والجيوش المعادية لكوريا الشمالية. وأوضح بوتين أن هذه الخطوات تقوض السلام والاستقرار وتشكل تهديدًا أمنيًا لدول شمال شرق آسيا.
في كوريا الجنوبية، ناقش مجلس الأمن القومي بنود المعاهدة بين بيونج يانج وموسكو، واستدعت وزارة الخارجية السفير الروسي لدى سول لتقديم احتجاج، وأكد وزير الخارجية جو تيه-يول أنه من المؤسف أن تنتهك روسيا القرارات الدولية التي وافقت هي نفسها على تبنيها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي.
أما في الولايات المتحدة، فقد أعلن وزير خارجيتها أنتوني بلينكن أن واشنطن ستنظر في سبل مختلفة للرد على تهديدات بيونج يانج وموسكو للسلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية وخارجها، مؤكدًا تعزيز الردع الموسع والتعاون الأمني الثلاثي بين واشنطن وسول وطوكيو، للتعامل مع التهديدات النووية والصاروخية.
وعقبت المحللة الأولى السابقة بوكالة الاستخبارات الأمريكية، سو مي تيري، على التحالف العسكري بين بيونج يانج وموسكو قائلة: “هذا يدل على أن بوتين يائس للغاية، وقد تخلى الآن عن كل الآمال للانضمام إلى الغرب، ويريد أن يبذل أقصى جهده للتأكد من انهيار النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة”.
من جانبها، صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير: بأن تعميق التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية هو اتجاه يجب أن يكون مصدر قلق كبير لأي شخص مهتم بالحفاظ على السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، ودعم النظام العالمي لمنع الانتشار النووي، والالتزام بقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ودعم شعب أوكرانيا في دفاعه عن حريته واستقلاله ضد العدوان الروسي.
وذكر تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” أن روسيا وكوريا الشمالية قد تبادلتا خلال الأشهر الأخيرة كل شيء بدءًا من الأغذية والنفط وحتى الأسلحة، وأضاف التقرير أن الرئيس بوتين طلب من الزعيم كيم دعما لتجديد مخزون الأسلحة المستنزف بسبب الحرب المطولة في أوكرانيا، مشيرا إلى أن روسيا تخطط لنقل تقنياتها العسكرية لكوريا الشمالية المسلحة نوويا مقابللتقرير ذلك الدعم.
في اليابان، صرح الخبير في شئون كوريا الشمالية والأستاذ بجامعة نانزان، هيرايوا شونجي، أن رفع مستوى التعاون العسكري بين كوريا الشمالية وروسيا يعتبر تهديدا للأمن القومي الياباني، أما في بكين، فقد صرح المتحدث باسم الخارجية الصينية، لين جيان، بأن كوريا الشمالية وروسيا بحاجة إلى التعاون وتطوير العلاقات كجارتين صديقيتن.
تبقى الإشارة الني أصدرها مؤخرا معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، سيبري، ورد فيها أن عدد الرؤوس الحربية النووية التي تمتلكها كوريا الشمالية، وصل إلى 50 رأسا نوويا في العام الحالي، بزيادة 20 رأسا عن العام الماضي، كما أن بيونج يانج لديها ما يكفي من المواد الانشطارية لإنتاج حوالي 90 رأسا نوويا.
في الوقت نفسه، أكد سيبري أن ترسانة الأسلحة النووية الكورية الشمالية، الجاهزة للاستخدام في العمليات العسكرية، تقدر بنحو 20-60 رأسا نوويا، مشيرًا إلى أن كوريا الشمالية تنتج البلوتونيوم، ويعتقد أنها تنتج -كذلك- اليورانيوم عالي التخصيب، للاستخدام في إنتاج الرؤوس الحربية النووية.
يصل العدد الإجمالي للرؤوس النووية حوالي 12512 رأسا، تحتل روسيا المركز الأول بنحو 4380 رأسا، بقائمة الدول المشاركة في معاهدة حظر الانتشار وتمتلك رؤوسا نووية بشكل رسمي، تليها الولايات المتحدة 3708، الصين 500، فرنسا 300، إنجلترا 215. أما الدول التي لم تشارك في المعاهدة، وتمتلك رؤوسا نووية فهي: الهند 172، باكستان 170، إسرائيل 90، ثم كوريا الشمالية 50 رأسا نوويا.
الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية، آيكان، قدرت إجمالي الإنفاق العالمي على الترسانات النووية في العام الماضي، 2023، بنحو 91.1 مليار دولار، بزيادة نسبتها 13% عن العام الأسبق، واحتلت الولايات المتحدة المركز الأول في الإنفاق بنحو 51.1 مليار، تليها الصين 11.9 مليار، ثم روسيا 8.3 مليار دولار.
أختتم بتحليل نشرته صحيفة الجارديان البريطانية تعقيبًا على معاهدة الدفاع المشترك بين بيونج يانج وموسكو، جاء فيه: “كوريا الشمالية ليست سوى قطعة واحدة، على رقعة شطرنج كبيرة، في القرن الحادي والعشرين، وكما هو الحال في أوكرانيا وفي غزة، فإن العالم القديم، المتمثل في رؤية أمريكا للعالم والنظام الدولي القائم على ميثاق الأمم المتحدة، يموت أمام أعيننا”.