منى الشيمي تكتب ” بدمها ” عن بلدياتها الأمير المحير يوسف كمال
قد تسمي عمل الروائية والقاصة منى الشيمي الأخير وعنوانه “يوسف كمال في رواية اخرى ” سيرة روائية ، أو نصف تأريخى ونصف روائي ، أو تحقيقا استقصائيا مطولا ، أو تعجز عن أن تجد اسما ، فتكتفي بأن تقول عنه إنه كتاب منى الأخير ، وفي كل الحالات فأنت أمام سردية مشوقه ومثيره وغنيه بالتفاصيل التي تم تضفيرها بعنايه وبضمير أدبى ومهنى يقظ وحريص على ان يقدم أجمل ما يستطيعه ويعيشه ايضا لقارئه .
في جانب آخر سيتحرك الناقد فيك ليقول ان جزءا كبيرا من المتعة في كتاب منى الشيمي يأتي تلقائيا من طبيعة ومكانة الشخصية التى تكتب عنها ، حيث الأحداث التي تتناولها تؤثر فى قرائها ولو كانت في كتاب تاريخ أو في كتاب بحث اجتماعي عن اصول العائلات الملكية ومساراتها او حتى جاءت في شكل لوحات مرسومه !.
لا استطيع الجزم بان ما كتبته منى عن يوسف كمال هو تاريخ مختلف تماما، كقولها ، لهذه الشخصيه ، كما أنه ليس هنا بالتحديد ، اى كونه مختلفا ، يكمن سر جوده العمل.
وليس سر الاثاره في الكتاب من تعرضه للحياه العاطفيه والحسيه والمالية والدسائسية لأميرات وأمراء الأسرة الملكيه ، وليس كذلك مبعث الاثاره هو تناول الجانب شبه الخفي في حياة الأمير يوسف كمال الخاص بتعلقه بالغلمان ومعاشرتهم وأنه بسببهم فشل في الزيجتين اللتين تزوجهما او لعله كان يريد ان يفشل ليرجع الى ما يحب. قوة منى ،الصعيدية ، فى قوة الروح التقدمى الابداعى الذى تكتب به قبل اى شىء اخر .
منى الشيمي ذهبت الى النمسا لتبحث في خلفيات حياه يوسف كمال ، بعد ان قامت ثورة يوليو وكيف دبر معايشه الرخية وهو الذي قيل إنه ترك مصر بلا ثروه ، و تبحث ايضا عن خلفيه إصدار ” المجموعه الكماليه لجغرافيا مصر والقاره الأفريقية ” والتي طبعت في الخارج ، وحدود دور يوسف كمال فيها ،الى جانب البحث عن تدقيقات لأمور آخرى مثل ملابسات وفاته وعلاقته ب الباتلر الذى كان يخدمه وأسرته .
كما بحثت منى فى عشرات المراجع العربية والأجنبية، وراسلت مختصين فى الخارج ، وحاورت خبراء بعلم النفس والتاريخ والآثار والمواقع المعمارية ، فى الداخل ، لترضى ضميرها البحثى، وإن كان من المستغرب أنها لم تلجأ مثلا الى الأرشيف البريطاني وما به من وثائق تم أو يتم رفع الحظر عنها .
الكتاب يتعمق فى سر العداء بين فرع احمد رفعت جد يوسف كمال ،والذى كان وليا للعهد مع الخديوى سعيد ، ومات غرقا بشكل غامض ، وفرع اسماعيل وقيام الأخير بالتضييق على يوسف بعد أن كان على وشك حكم مصر.
من المحاور الأساسية في الكتاب ايضا وفى شخصية يوسف كمال رحلاته من أجل الصيد والاستكشاف الى الهند واوروبا وافريقيا والصحراء الغربية ، و أمراء العائلات الأوروبية الملكية ، الذين كان يتواصل معهم لهذا الغرض،
وكيف أنه اكتشف لاحقا ان قيام الجد الاكبر محمد علي بفتح الباب أمام المصريين ليدرسوا فروع العلم المختلفة بالخارج ، ومنهم مختار وراغب عياد منهم ، هو ما سيكون من شأنه ، ويا للمفارقة ،انهاء عصر الاسره الملكيه ذاتها ، وقد تبين له ذلك بشكل خاص حين احتك باحد الجغرافيين المصريين الصاعدين واكتشف ان معرفته بالخرائط وبالجغرافيا فيها جوانب أعمق من معرفه الأمير نفسه والذي انفق الملايين على رحلاته الخارجية الاستكشافية .
إن وضع ما يشبه محاضر لقاءات منى مع اصدقاء وخبراء في علم النفس او الاجتماع والآثار أوكذا ، بالكتاب ، بشكل منفصل ، بدا انه تحميل على العمل لاظهار كم كابدت في الاعداد لكتابها ونفس الشيء يمكن ان يقال عن حصائل سفرها المتكرر الى نجع حمادي البلد الذي كان للامير فيه ابعديه تصل الى 13,000 فدان وبها سرايا كبيرة له ،
وكان مصنع السكر المقام هناك يعتمد على قصب تلك المزروعة… ولقاءات منى هناك للسؤال عن صحه واقعه غرام الامير بالغازيه وداد وصدها له وعن كيفيه تعامله مع الفلاحين ومع الكرامات المنسوبة الى شيوخ المقامات .الخ . كل ذلك كان يمكن تضمين خلاصاته فى نسيج العمل او السرد “الرواريخى ” اى الروائي التاريخي دون انفصال .
أقامت منى تقابلات تقليدية ،لكن مهندسة بشكل جيد بين ايام معينة في حياة الأمير وبين ما يجري في مصر بعد الثوره من وقائع ، ومن أطرف ما فيها أن يوسف كمال كان قد دعا سعد زغلول واخرين الى اجتماع لمجلس ادارة جمعية خيرية كبيرة يرأسها ، مشترطا ان يرتدي الجميع ” الردينجوت” غير ان سعد زغلول جاء دون ان يرتديه وقال للامير ما يقترب من ان يكون “اصل البتاع ده بيخنقني ” ثم يعلق يوسف كمال حسب روايه منى بان المصريين يكرهون البروتوكولات ولعلهم سعداء الآن وهم يرون جمال عبد الناصر يرتدي بدلا رخيصة مصنوعة في المحلة !
تتطرق منى الى اصطفاف عدد من الأمراء ومنهم يوسف كمال الى جانب الحركه الوطنيه باشكال مختلفة ،ربما ليس حبا في المصريين بقدر ما هو كراهة في الانجليز ، او كمحاوله لتطويق فؤاد الذي قفز الى العرش بدهائه وبمكر الانجليز معا ، وتشير من اكثر من زاويه الى ان الكثيرين فعلا من الاسره الملكيه كانوا يكرهون الانجليز مره لانهم غير مسلمين ومره اخرى لانهم يتسلطون على البلاد وعلى حاكمها ذاته ويريدونه لعبه بين أصابعهم .
تستعرض الرواية مواقف مختلفة تؤكد إن “هذه العائلة ملعونة ” كما قال أمير منها ،وكيف ان العائله في عمومها كانت قليلة الخلفه حتى ان الرواية تقول ( والمؤرخون كذلك ) إن الملك فؤاد تزوج نازلي على “علاتها” وصبر عليها كل ذلك بحثا عن ولي عهد.
الغريب أن أمراء الأسرة المالكة رجالا ونساء كانوا يملكون فى الغالب روحا دينية قوية ، ومع ذلك فحياة الأمراء مع المحظيات والجواري والمستولدات ( اى الجواري اللواتي ينجبن من أمير فيكتسبن وضعية الاميرات ومنهن ام يوسف كمال ذاتها ) ،هذه الحياه تفسر لنا جانبا من سلوك الجماعات السلفية التي تريد العودة الى هذا النمط بالذات من الحياه الاسلاميه التي يمتلك فيها كل منهم جوارى بلا عدد ومن كل صوب وحدب ليتناوب عليهن طبقا لمزاجه وتفضيلاته.
فى الكتاب تقييم قد لا نوافق عليه كليا ، لدوافع انشاء يوسف كمال لمدرسه الفنون بدرب الجماميز وافتتاحها في 1908 ،وفى مقدمتها أنه اراد ان يثير غيرة الامير فؤاد ،الملك لاحقا ، ويرد على سطوته على فكرة مشروع إقامة جامعه القاهرة سعيا لكسب رضا الناس . العقل الطبيعى قد يميل اكثر الى القول بانه ايا ما كان فمثل هذا التنافس في مضمار العلم والثقافة وبالمستوى الرفيع ذاك ، محمود محمود محمود ، وفى الحقيقة فقد رأينا سيدات من الاسره الملكيه ايضا يقمن بتبرعات كبيرة سواء للجامعه او لاغراض اجتماعية او مدنيه مهمة أخرى.
يمر الكتاب بأحداث تاريخية ووطنية وعمرانية وانثروبولوجية بلا حصر اماما وخلفا فى التاريخ المصرى ، ويقف بخاصة من ثوره 19 ثم أحداث يناير 52 والتي احترقت فيها القاهره ، فقيام ثورة يوليو ، ويتخلل السرد لقطات حسية مثيرة ومتقنة فنيا حيث نرى يوسف كمال وهو يعاشر الفتى الاسمر الذى كان قد جلبه من الجنوب منقذا آياه من الموت فى صراع قبلى ، ويظل يفعل الى ان يقول له الفتى انه لن يرتكب الحرام مرة أخرى( بتاثير شيخ اخواني ) لكنه لن يتأخر عن خدمته ، ومن وقت الى اخر نرى لمسة فضائحية مثل ضبط ابنة يحيى. ا. باشا ، فى احضان اسماعيل. ص باشا ،وانتحارها بالسم ، ومشى الأخير فى جنازتها.
وكذا قصة الأغا خضر اخر غوات حراملك القصر العالي و حبه للجارية ” كليفاتير ” وحبها له رغم أنه كأغا لم يكن يملك بين ساقيه ما يملكه الرجال مكتفيه منه بالاحضان والمداعبة باللسان والاصبع.
كانت اصعب لحظات حياة يوسف كمال هي سماعه نبأ ان نازلي حامل والاصعب منها ان هذا الحمل اكتمل لتلد فاروق وزاد الأمر صداما ان يوافق الانجليز على اعلان فاروق وليا للعهد وانا توريث العرش سيكون لمن هم من نسل فؤاد فقط.
نتذكر هنا السيدة الوحيدة التي احبها يوسف كمال وهي عين الحياة والتي تزوجها غريم له ( سليل قراصنة ) غير ملكي هو عادل بن عياد وغيرته منه ومحاولة عقابه بأكثر من طريقة .
منى شأنها شأننا شأن غيرنا لديها نوع من الولع بالمسميات والمفردات اللغوية في القرنين التاسع عشر واوائل العشرين بكل ما تحمله من توصيفات دقيقه وطريفة وتخليطات لغويه تجمع بين العثمانلي والمصري.
ثمة عرض مطول لقصة ، سيف الدين ،شقيق شويكار ، الذى حاول قتل فؤاد مرة ، وتم نفيه الى انجلترا وحرمانه من ممتلكاته، ثم قضيه رفع الحجر عنه ،وكيف تم تسييس القضية من خلال المحامين المنتمين الى الوفد من جانب وحزب الأحرار الدستوريين من جانب ، وكان هدف التسييس كما تقول الرواية على لسان يوسف كمال ان يجد فؤاد فرصة لإفشالها.
في الكتاب التقاط ذكى من على لسان بطلها لتفاصيل التغيرات الاجتماعيه والسياسيه والثقافيه التي كانت تحدث وتؤذن في النهايه بانتهاء حكم أسرة محمد علي وأحفاده بدءا من رفض مختار نفسه طلب الامير ان يتولى نظارة مدرسة الفنون رغم تقديره لجميل يوسف، ، وقيام محام تعلم فى مدرسة الأمير نفسه بنجع حمادي برفع قضية ضد الأمير دفاعا عن فلاحين ثاروا بعد أن تعرض واحد منهم بلا جريرة للضرب بالكرباج من الأمير .وهكذا .
تنوعت مصائر الأمراء فمنهم من ترك الدنيا وما فيها ليعيش مع الدراويش في الجبل ومنهم من هاجر او هرب من العائلة التي يعتبرها ملعونه ومنهم من مات كمدا ومنهم من تمرد او ساوم وعندما مات فؤاد في 18 ابريل 1936 فإن يوسف كمال فرح واحتفل ، بينما تضاعف احساسه بالانكسار ، لانه فى النهاية فقد الامل فى الحكم تماما ،
كما تنوعت أشكال القصور والسرايات التى أقامها يوسف والأمراء، وقصص بناء او ترميم او شراء او بيع هذا القصر او ذاك ، وفشل محاولة يوسف كمال تأميم المطرب محمد عبد الوهاب له وحده ، و محاولات شويكار الانتقام من فؤاد حيا وميتا لابنها الميت الذى كان من يجب ان يحل محل ابيه وانتقاما لاخيها سيف الدين.
كان ليوسف كمال ضيعه في لبنان ومنزلا وفي إحدى المرات كان عائدا من رحلة ليوم واحد الى هناك وعند اقتراب اليخت من ميناء الإسكندرية وصلته رسالة اذاعية بألا يقترب لان بعض رجال الجيش بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر أطاحوا بالملك ، ولم تشفع له الثوره ابتعاده عن السياسه الى حد أن فاروق نفسه منحه وسام الملك فؤاد لانه كان اكثر أمراء العائلة التزاما بقانون مجلس البلاط ، وتم فرض الحراسة على ممتلكاته بعد يوليو .
الغريب ان الصفحه الاخيره من الكتاب الروائي تقول انه بعد وصول جثمان يوسف من لبنان حسب الخبر الذي نشر في الاهرام بعد منتصف الستينات ، ” كانت مصر من دون ان تعي تتاهب للنكسه”…ثم : حيث لم يستقبل رادار الدفاع الجوي بالمقطم بسبب غامض اشاره هجوم الطيران الاسرائيلي بل ذهبت مباشره الى مكتب وزير الحربيه في وقت تغيير الشفره فلم يتم استلامها.
وجه الغرابة أن تلك واقعة لا محل لها فى السياق الذى اختارته منى لعملها ،بل ولعل ما تقوله تلك العبارة هو ما لا أتصور ان تكون مؤمنة به بعد كل ما عاينت من مخازى للاسرة العلوية ، اى انه بموت الرجل/ العهد “البركة” يوسف كمال حلت اللعنة على مصر فجاءت الهزيمة فى ١٩٦٧ .
منى قالت ،صدقا ، فى حديث صحفى سابق ، انها تكتب بدمها ،ونحن نلمس ذلك بوضوح فى كل فقرة ،حتى بغض النظر عن هنات هنا او هناك فى لغة الكتابة وطريقة هندسة النص ، وقالت صدقا ايضا ان البعض يكتب التاريخ او الرواية بطريقة معينة ليجتذب جوائز بعينها ،وهى ضد ذلك ،وانا اصدقها لكن سطر النكسة الأخير هذا لغز وقد يفسره البعض بانه يىضى مانحو جوائز هذه الايام .
وتقول منى فى أعقاب انتهاء الكتاب تحت ما أسمته اعتراف لابد منه انها لم تقم برحلة البحث بالترتيب الزمني أو بالشكل الذي ظهر عليه وان كثرة المعلومات والمده الزمنيه الطويله للبحث فرضا سطوتهما ، و” كان الهدف وحسب تقريب شخصية الأمير يوسف كمال ” .
،واذا كان الامر هو التقريب فان إشارة الهجوم الاسرائيلي ١٩٦٧ ليست فى مكانها ابدا .