مصطفي عبيد يكتب من
خارج السطر
أسوأ الكتب في بلادنا
في مذكرات عبد الوهاب المسيري حكاية لافتة تستحق الالتفات، ففي صباه كان يستغرب دعاء إمام مسجد دمنهور كل جمعة وهو يستعيذ بالله من علمٍ لا ينفع. كان رأس المفكر يسأله وهو صغير إن كان هناك بالفعل علم لا ينفع،
وظل السؤال حاضرا حتى سافر للدراسة في الولايات المتحدة. وهناك في أحد الأيام نظمت إدارة الجامعة للطلاب زيارة للعالم الكبير أوبنهايمر الذي اخترع القنبلة الذرية، وتناقشوا معه في الفلسفة والحياة والفكر. وسأله الطالب المصري عن شعوره عندما قامت أمريكا في 1945 بالقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، وقتل آلاف الأبرياء. ولاحظ “المسيري” تغير ملامح الرجل، وسكوته لفترة طويلة يفكر، قبل أن يقول له ” لقد تقيأت”. ووقتها فقط أدرك معنى دعاء خطيب الجمعة في دمنهور مستعيذا من علم لا ينفع، بل يضر ويخرب ويدمر.
وهكذا فإن المعرفة ليست جميعا نفع وخير ونور، فهناك علوم مدمرة، وبالمثل هناك كُتب أحرقت قلوب وبدلت عقول وفتت دول وسحقت شعوب.
وفي ظني فإن هناك قوائم لأسوأ الكتب في بلادنا، مثلما توجد قوائم لأفضل الكتب. وربما كان كتاب “الأمير” لنيقولا ميكافيللي واحدا منها، اذ يحتوي على أساليب وأفكار تروج للانتهازية والهيمنة السلطوية.
ويُذكر أن محمد علي، والي مصر سمع به، فطلب من مترجمه قراءته واطلاعه على ما به. وبالفعل استمع منه لفقرات من الكتاب، لكنه شعر أن مستوى الشر فيه أقل مما ينبغي، فطلب من مترجمه أن يكف عن اطلاعه على المزيد لأن ما يعرفه من حيل أعظم مما يطرحه الكتاب.
كذلك، كان كتاب سيد قطب الشهير “معالم في الطريق” يعد نموذجا صريحا للكتابة المُلغمة التي تقود الناس نحو الانقسام والاقتتال. وليس سرا أن كافة الجماعات التكفيرية التي نشأت في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين استمدت أفكارها الأولية من هذا الكتاب،
فكتب محمد عبد السلام فرج كتابه “الفريضة الغائبة” ليؤسس مفهوم الجهاد ضد المسلمين الجاهليين، ثُم كتب غيره كتيبات شارحة ومفصلة للفكرة لتتحول مجتمعاتنا إلى ساحات دم.
كُتب الثورات الكاذبة والبطولات الزائفة والشعارات الرنانة تدخل أيضا ضمن كُتب السوء التي لا تنفع. فمنها مثلا كتاب شعاراتي سطحي عرف باسم “الكتاب الأخضر” قيل أن معمر القذافي هو مؤلفه، وتضمن شعارات ساذجة عن العدالة والمساواة، بينما ناقضت كثير من عباراته التعددية السياسية مثل “من تحزب خان”، و”المجلس النيابي مجلس غيابي” وغيرها من العبارات الساذجة.
كتب أيضا جمال عبد الناصر كتابا بعنوان “فلسفة الثورة” تضمن أفكارا مهلهلة حول مستقبل كاذب وتوجهات غير عادلة، وأثبتت التجربة العملية أنها ضد المنطق العملي، وأنه لا معنى لثورة لا تُحرر الإنسان.
أما صدام حسين، طاغية العراق العظيم، فقد كانت له رواية شهيرة بعنوان ” زبيبة والشياطين” قيل أن كاتبها مبدع مصري معروف، تضمنت تكرارا لأفكار النظم الشمولية الدموية والتي تفترض وجود مؤامرة دائمة لا تنتهي ضد الوطن ينفذها الأشرار، وتحكم بالخيانة على كل من يختلف مع رأس النظام.
ولاشك ان كتب النفاق والتطبيل وتزوير التاريخ في بلادنا تكدست وملأت الرفوف على مدى نصف قرن وأكثر، كلما تبدلت سلطة زعق ألف زاعق تقبيحا وتشويها للسابقين ارضاءا للسلطة السائدة. غير أن قراء اليوم أفضل حظا من قراء الأمس، ففي ظل التطور التكنولوجي، وانهيار الحواجز، واتساع شبكات الحوار، وحرية النقد التي تكفلها التكنولوجيا رغم أنف الشموليين صار القارئ أقدر على استقراء ما يكتب، غير عابئ باسم رنان وغير منساق لتوجيهات أو حملات ترويج سلطوية لكتاب ما،
وأصبح حرا تماما في اختيار ما يقرأهناك بالفعل علم لا ينفع،
والله أعلم