أنا من المخيم
الدكتورة خديجة حمودة
بدأت الأحداث الدموية حولنا تشتد وتتسارع وتتسابق بضراوة مع أى محاولة لإيقافها أو لنشر السلام والأمان فى تلك البقعة، التى تعيش بقلوبنا جميعاً، تعيش وتسكن ولا تتحرك أبداً إلى الذاكرة، فهى لا تعرف النسيان وترفضه تماماً، بل تفرض نفسها بغلاوتها وتاريخها الغنى وزعمائها الأحرار وشهدائها الأبطال وأطفالها الذين يعيشون وسط الملائكة، بعد أن ذاقوا معنى الشهادة وهم فى ربيع العمر.
تحيطنا تلك الصور فتخرجنا من حياتنا اليومية ومن منازلنا ومن أحضان أطفالنا ودفئها وتدفع بنا بعيداً عن حجرات الطعام التى اعتدنا أن نجتمع فيها مع العائلة والأحباب، وتمنعنا من إشعال مواقد الغاز لإعداد الحلوى للصغار والخبز الذى تملأ رائحة عجائنه البيت وتصل إلى الجيران وكل ما هو قريب من بيتنا.
والعجيب أن تمحو هذه الأحزان ذاكرتنا ونبحث من حولنا عن أى مساعدة لنتذكر وصفات ومقادير طعام طالما أعددناه، وترتعش أصابع الجدات أثناء تطريز ثياب الفتيات الصغار وعرائس الحى وتصبح أشبه بثياب المهرج الذى يطوف فى الطرقات بحثاً عن عملات معدنية تسد جوعه بعد أن نفد الخير من المدينة.
فما هذه الصورة التعيسة التى نعيشها؟ ومن هو المؤلف الذى كتبها وأعطاها لمخرج سينمائى عبقرى ومصور محترف التقط الصور بكل لمحاتها وسجلها للتاريخ؟ إنه عقاب السماء نزل بنا ولا ندرى إن كانت هناك بقية أم لا.
ولكن كبار العائلات وعجائزها يؤكدون أن اللعنة قادمة وأن السماء غاضبة، والأرض لا تشرب دماء الشهداء، بل تظل فوقها شاهدة على ظلم الإنسان وقسوته.
وفى تعريف يقوله أطفال غزة (أنا من المخيم) تنتحب القلوب وتنهمر الدموع، فهذا هو المكان الذى يعرفونه وعاشوا داخله، بل استقبلتهم الحياة وسطه وتعلموا معنى القهر والجوع وألم الفراق فى سنواتهم الأولى فيه، فقد ذهب الأب من وسطهم والأخ والصديق، وبعضهم فقد الأم عندما اغتالتها القذائف العمياء، أو اختطفها الأعداء، «أنا من المخيم»، قالها عدد من الأبطال والقادة الغزاويون بعد أن عاشوا حياتهم كلها وسطه.
والمخيم لمن لا يعرف كما كُتب فى معاجم اللغة العربية هو ذلك المكان الذى يأوى إليه البشر لأسباب قسرية، وعادة ما يكون سكانه من الملاحقين سياسياً أو الهاربين من حروب أو يكونون ضحايا تهجير، أو تفادياً لعمليات تطهير، وعادة ما تقوم مؤسسات إنسانية ببناء هذه المخيمات، ومن ضمن تلك المؤسسات الأمم المتحدة والصليب الأحمر. ويمكن لمخيم لاجئين واحد أن يستوعب مئات الآلاف، وحتى ملايين من اللاجئين.
ومع أن مخيمات اللاجئين تقضى بأن يكون المخيم مأوى مؤقتاً لسكان ليعودوا إلى ديارهم عندما تسمح الأوضاع بذلك، وتزول أسباب اللجوء، إلا أن مخيمات الفلسطينيين طال وجودها لعقود وتحولت من خيام إلى بناء، وفى إحصائيات خرجت من الجهات الفلسطينية الرسمية عام ٢٠٠٠ أكدت أن أكثر من ٢.٣ مليون فلسطينى يعيشون معاناة اللجوء على أرض بلادهم.
وفى الضفة الغربية يقطن أكثر من ربع اللاجئين فى مخيمات رسمية وغير رسمية، ويشهد ٣٢ مخيماً فى قطاع غزة والضفة الغربية على النكبة الفلسطينية والتهجير القسرى.
وتؤكد التقارير العالمية لمؤسسات حقوق الإنسان أن تلك المخيمات تعانى من بنى تحتية متهالكة وشبكات صحية مدمّرة ونقص فى المياه ويعيش سكانها اكتظاظاً هائلاً فى بنايات متراصة تفتقر إلى الخدمات الأساسية ويكابدون ظروفاً معيشية صعبة وسط نسبة مرتفعة من البطالة والفقر.
وتزيد معاناة مخيمات الضفة الغربية مع الاجتياحات المتكرّرة لها من قِبل قوات الاحتلال والتدمير المستمر للمنازل والبنى التحتية والإغلاقات والتضييق على الحواجز، كما تعانى مخيمات غزة حصاراً خانقاً وحروباً متكرّرة وتدميراً شاملاً للممتلكات، فضلاً عن عمليات القتل الجماعى للمدنيين التى ترتكبها قوات الاحتلال.
وفى أوراق التاريخ التى ستشهد على ذلك الظلم البين كتب أن العصابات الصهيونية شنّت هجمات على القرى الفلسطينية عام ١٩٤٧ بعد أن أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بتقسيم فلسطين، والذى رفضته الجامعة العربية، إلا أن هجمات تلك العصابات أجبرت الآلاف من السكان الفلسطينيين أصحاب الأرض الشرعيين على الفرار، لتتدهور الأوضاع وتتحول إلى حرب شاملة عام ١٩٤٨، ليتوجّه معظم اللاجئين إلى منطقتى قطاع غزة والضفة الغربية اللتين تم ترسيم حدودهما بعد ذلك.
ونصبت الجمعيات الأهلية والدولية كالصليب الأحمر مخيمات إيواء للاجئين، وفى قطاع غزة أنشأت جمعية الأصدقاء الأمريكية (الكويكرز) مخيمات أعطيت أسماء المدن المجاورة لها وقامت الجمعية بتوزيع الخيام على الفلسطينيين، واستمرت فى الإشراف على المخيمات، حتى تم تشكيل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
ورغم القرارات التى خرجت من المنظمات العالمية بحق هؤلاء فى العودة، والتى بدأت من عام ١٩٤٨ وتوالت بعد ذلك، فإن المأساة ما زالت قائمة وتتحرّك من سيئ إلى أسوأ، وما زالت أجيال كاملة تقول (أنا من المخيم).