الدكتورة خديجة حمودة
سقوط المدن والذكريات والأحلام
وظهر القمر مستديراً كاملاً وسط السماء فى تلك الليلة القمرية بلون خجل وجنات العذارى الأحمر، فكان مشهداً غريباً مثيراً للتساؤلات، فقد اعتدنا انتظاره فى تلك الليالى لنسعد بضوئه الفضى وتلك الهالات التى تملأه فيتخيل كل منا أنها تكتب له رسالة من غائب أو ترسم ملامح من غابوا ورحلوا، أو تدعوه للفرح واللهو مع قلوب طالما احتضنته.
واختلفت التفسيرات بين من يعلمون ومن لا يعملون، فهناك علماء الفلك الذين خرجوا من الصورة تماماً وتركوا الساحة لمدعى العلم والمنجمين ومفسرى الأحلام، فلم نعرف أهو خجل من ظلم الحياة أم من خيانة الأصدقاء أم من قسوة الأيام وضياع الأخلاق والمبادئ والعلم والإيمان وكل مظاهر جمال الحياة ونقائها؟.
ورأيت وجه القمر بلون غريب غير ذلك الذى تعلمنا به الحب صغاراً، فكان لا بد من سؤال حول هذه الصور الغريبة التى بدأت تهاجمنا وتشوش ذاكرتنا والسبب فى سيطرتها علينا حتى تصل إلى السماء والقمر، وما أدراك ما القمر لنا نحن الكتاب والشعراء وأوراقنا وألوانها والرسومات التى تزينها، فالحروب تندلع والثورات تقوم والانقلابات تتفجر دون أسباب منطقية لا لشىء إلا الاستيلاء على ما يملكه الغير بقسوة وعنف وتغيير مسار التاريخ وتزويره وحرق أوراق منه.
بل فصول كاملة وعقود لإلغاء أدوار زعماء عاشوا من أجل المبادئ والأرض والعرض والبلاد، وشعوب تُطرد من أرضها، وعائلات يُقضى على أجيال كاملة منها دون رحمة أو شفقة، وأطفال يُكتب عليهم اليتم والقيام بأدوار لم يتعلموا كيف يتقنونها، ولكنها الحرب والدمار والموت.
ويكشف أحدث تقرير عالمى لرصد (العنف المتفجر)، أصدرته منظمة العمل على العنف المسلح (AOAV)، فى يناير الماضى، عن ارتفاع بنسبة ١٢٢٪ فى وفيات المدنيين بسبب استخدام الأسلحة المتفجرة على مستوى العالم فى عام ٢٠٢٣ مقارنة بعام ٢٠٢٢.
التقرير الذى أصدرته هذه المنظمة الحقوقية، ومقرها لندن، يؤكد أن الاجتياح الإسرائيلى لقطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى قد أسهم بشكل كبير فى هذه الزيادة.
إذ نسب إليه ٣٧٪ من إجمالى الضحايا المدنيين على مستوى العالم وذلك خلال ٨٠ يوماً فقط من الاجتياح الإسرائيلى، كون التقرير غطى عام ٢٠٢٣ فقط وهو ما يعنى أن هذه النسبة قد تضاعفت الآن!
حيث تشتهر حروب المدن بالوحشية والتدمير، وقد سجل التاريخ شواهد مرعبة على هذه الحروب فى العديد من المدن ومنها جروزنى والفالوجا وغزة وسنتالينجراد وغيرها من المدن التى شهدت معارك ضارية وتدميراً كبيراً وضحايا لم يُعرف عددهم بدقة.
وحين تتعرض المدن للقصف تكون المدارس والمستشفيات والبنى التحتية الأخرى أهدافاً عسكرية.
ويكون أحد الأسباب الرئيسية لمعاناة المدنيين خلال الحروب فى المدن استخدام الأسلحة المتفجرة التى تصيب مرافق واسعة يعتمد عليها الناس فى معيشتهم.
وتؤكد المنظمة فى تقريرها المشار إليه، وفى تقارير سابقة، أن ٩٠٪ من المتضررين من الأسلحة المتفجرة عادة من المدنيين، ولعل السبب فى ذلك أن الأسلحة المتفجرة قد صممت أساساً لتُستخدم فى معارك مفتوحة.
ولكنها بكل أسف تُستخدم حالياً فى مناطق مغلقة مأهولة بالسكان ولا يتم مراعاة ذلك. وأوضح مثال لهذه الكارثة الإنسانية ما حدث فى مدينة الرقة السورية؛ حيث أكد تقرير لمنظمة العفو الدولية أصدرته عام ٢٠١٩ بعنوان (لغة الخطاب تفندها الوقائع) كيف أن ضربات قوات التحالف الدولى قد دمرت المدينة وقتلت عدداً كبيراً من سكانها، إلا أنها لم تعترف إلا بـ١٠٪ منهم.
ذلك على الرغم من أن أحد المسئولين العسكريين لقوات الولايات المتحدة الأمريكية كان يتفاخر بأنه قد تم إطلاق ٣٠٠٠٠ قذيفة مدفع على الرقة، أى ما يعادل قذيفة كل ٦ دقائق، على مدار أربعة أشهر متتالية، وهذا العدد يفوق أعداد قذائف المدفعية التى استُخدمت فى أى نزاع مسلح آخر منذ حرب فيتنام، وفق منظمة العفو الدولية.
وعودة لتقرير منظمة العمل على العنف المسلح (AOAV)، فإن أعمال العنف المتفجرة قد أثرت على ٦٤ دولة فى العالم عام ٢٠٢٣، وكانت المناطق الأكثر تضرراً هى غزة وأوكرانيا والسودان وميانمار وسوريا، وكانت الجهات التى تسببت بالضرر للمدنيين هى إسرائيل وروسيا وميانمار بالترتيب.
ومنذ عام ٢٠١٠ عملت بعض الجهات الفاعلة الإنسانية فى العالم على زيادة الوعى حول الأثر الإنسانى العشوائى والخطير لاستخدام الأسلحة المتفجرة فى المناطق المأهولة بالسكان، ما أثمر عملية تشاور دولية تعالج الضرر الإنسانى الناجم عن استخدام الأسلحة المتفجرة فى المناطق المأهولة بالسكان.
وتقول صحيفة الجارديان البريطانية، فى تقرير لها، إن المدن المدمرة كانت شاهداً عبر التاريخ على ما جرى فى أرجائها من حروب كانت الطائرات أهم أدوات تدميرها، كما كانت القنابل النووية سبباً فى دمار بعضها.
وتضمن التقرير أسماء تلك المدن ومنها تدمر السورية وحلب وهيروشيما وناجازاكى وطوكيو ولندن، التى دُمرت تماماً فى الحرب العالمية الثانية، وهال البريطانية وبرلين الألمانية وأتلانتا الأمريكية وأفغانستان الحمراء وأرمازى فى چورچيا وغيرها.
فهل سيقرأ تلك التقارير أعضاء مجلس الأمن ورؤساء الدول والحكومات ليوقفوا هذا الدمار ويعيدوا للقمر لونه الفضى ووجهه الضاحك؟!