سياسة الأرض المحترقة
خديجة حمودة
هذه الجملة القاسية المعنى والمغزى، التى تستخدم فى الحروب وفى الاستراتيجيات العسكرية أصابت الإنسانية بكم هائل من الخسائر البشرية والمادية والمعنوية وتغلغلت داخلنا ووصلت لقلوبنا ومشاعرنا وعائلاتنا وبيوتنا ولم تعد تقتصر على الحياة العسكرية فقط بل دخلت منازلنا وعلاقاتنا الخاصة جدا.
ففي أحد الحوارات الذى أجراه التليفزيون مع طبيب نفسى حول ما يصيب الإنسان من أمراض نفسية نتيجة علاقات زوجية غير سوية أو العمل مع شخصيات مريضة تستعذب تحطيم الآخرين ومنعهم من النجاح بعيداً عنهم أو الاستمتاع بحياة جديدة وأسرة طبيعية بعد أن تفشل معه، أكد الطبيب أن هناك شخصيات يحلو لها أن تنتهج هذه السياسة مع من يريد أن يبتعد عنه أو يفك الشراكة معه،
وأشار إلى أنهم يعانون من عقد نفسية متراكمة تدفعهم لمحاولة الاستحواذ على شركائهم فى الحياة بجميع صورها والسيطرة عليهم ومنع أى محاولة للفرار من قبضتهم حتى لو استدعى الأمر تدميرهم تماماً حتى لا يستطيعوا البدء من جديد.
هؤلاء هم الصورة المدنية أو فلنقل البشرية للدول الطاغية التى لا تترك مكاناً يدخله جيشها إلا بعد أن يتحول لأرض محروقة لا نفع منها واستحالة العيش فيها من جديد.
وبالرغم من أن المادة ٥٤ من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف لعام ١٩٧٧ قد حذرت منها حيث تنص على (يحذر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل المواد التى لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التى تنتج المحاصيل والماشية والمرافق ومياه الشرب وشبكاتها وأشغال الرى من أجل غرض محدد لمنعها لقيمتها الحيوية على السكان المدنيين أو الخصم مهما كان الباعث سواء كان يقصد تجويع المدنيين أو حملهم على الابتعاد أو لأى سبب آخر).
وبالرغم من ذلك فإن هناك تجاوزات عديدة تخرق هذا البروتوكول خاصة أنه لا ينطبق على البلدان التى لم تصدق عليه (الولايات المتحدة – إسرائيل – إيران – باكستان – تركيا – العراق). ومن أشهر الحروب التى استخدمت فيها هذه السياسة اجتياح نابليون لروسيا فى الحرب العالمية، فعكس ما يعتقد الكثيرون أن سبب هزيمة نابليون كان البرد الشديد فإن السبب الحقيقى كان نقص الإمدادات، حيث طبق الروس سياسة الأرض المحروقة مع الحرب التقليدية، مما أدى إلى استنزاف جيش نابليون الذى دخل موسكو ليجدها شبه خالية من السكان والحياة.
وقد طبقت هذه السياسة فى الحرب العالمية الثانية على دولة أوكرانيا وسببت الدمار والهلاك هناك وتركت العديد من الآثار السلبية على المنطقة والسكان حيث تم تدمير آلاف المصانع والمنازل وإزالتها تماماً، وتم تفجير سد (دينبرويس) فى مدينة (دينبروبتروسك) وهو أكبر سد لتوليد الطاقة الكهرومائية فى العاصمة الأوكرانية كييف.
كما تعد سياسة الأرض المحروقة السبب الرئيسى وراء ضحايا الحرب فى الجبهة الشرقية حيث فاقت أعداد الضحايا المدنيين أعداد الضحايا العسكريين لأول مرة.
ولم يتوقف الأمر عند تلك الخسائر فقط بل كان هناك يقين أن السكان المدنيين الذين بقوا فى تلك المدينة سيعانون من الحرمان والبؤس جراء حرمانهم من كافة الموارد الموجودة.
ويبدو أن إسرائيل قد انتهجت تلك السياسة منذ السابع من أكتوبر ضد قطاع غزة وبدأت فى القضاء على جميع مظاهر الحياة بخطة محكمة ممنهجة، ففى الأيام الأولى من المعارك قامت بقذف المبنى الذى كان يضم مكاتب القنوات الفضائية ومكاتب مراسلى الصحف العالمية لتدمره تماماً وتسقط معه جميع الأجهزة والمعدات والأفلام الوثائقية التى تسجل التاريخ والعنف وصور الضحايا.
ففى يوم واحد فقدت كل وسائل الإعلام فى غزة مصادرها وأرشيفها وأوراقها، ليتحول بعد ذلك الانتقام وسياسة الأرض المحترقة إلى الإعلاميين أنفسهم وأسرهم ومنازلهم.
ووفقاً لما ذكرته لجنة حماية الصحفيين منذ بدء الحرب فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ حتى ٧ يونيو ٢٠٢٤ فقد استشهد ما لا يقل عن ١٠٨ صحفيين وغيرهم من العاملين فى وسائل الإعلام وكان من بينهم ١٠٣ صحفيين فلسطينيين و٣ لبنانيين واثنان فى عداد المفقودين و٤٤ معتقلاً.
ولعل عائلة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح هى أقرب هذه الأمثلة بعد أن فقد الزوجة والأبناء والأم وأصيب فى يده التى يكتب بها وكأنهم يصرون على محو الأدلة التى تدينهم، وفى الشهر الماضى تحدث البعض عن استشهاد أكثر من ٩٥٪ من المراسلين من غزة ولم يعد هناك من ينقل صورة الأحداث اليومية من هناك للعالم.
هذا بخلاف المحاصيل التى أحرقت والأراضى الزراعية التى جرفت ومخازن التموين التى احترقت تماماً، وأصبح الدقيق والخبز الأبيض من الأحلام بعيدة المنال، وفرغت الأسواق تماماً من المواد الغذائية وقضت النيران على الثروة الحيوانية والدواجن. وهكذا تكون غزة وأهلها هم المثال الأقرب والأدق لسياسة الأرض المحترقة فى عصرنا الحالى.