الدكتورة خديجة حمودة :
الحياة بلا شهادة ميلاد
هل يمكن أن يعيش الإنسان بلا أوراق ثبوتية؟ بلا شهادة ميلاد ولا عنوان منزل أو مدرسة ولا حى أو شياخة وبلا عائلة؟ كيف تكون الحياة؟ وهل ستدور الأيام ويملك كل تلك المفقودات التى دُفنت تحت الركام والأنقاض وداستها العربات المصفحة والدبابات؟
كلما مرت الأيام ازدادت تلك التساؤلات، فالحرب فى غزة كما يصفها المراقبون والمحللون العسكريون غير مسبوقة، ولا تُقارن بأى صراع آخر فى العصر الحديث، ومن المعروف إحصائياً أن الأطفال يشكلون نحو نصف سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، ويعيشون تحت قصف مستمر منذ عملية طوفان الأقصى فى 7 أكتوبر 2023 ويتكدّس كثيرون منهم فى ملاجئ مؤقتة،
وفى مدارس تديرها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بعد نزوحهم من منازلهم، كما استُشهد قرابة 5 آلاف طفل فى الأيام الأولى منذ بدء العدوان الإسرائيلى على القطاع، بما يعادل 40% من الضحايا، فى حين أصبح الآلاف يتامى نتيجة وفاة والديهم جراء القصف. ولهؤلاء اليتامى تاريخ موجع فى الأراضى الفلسطينية، فرغم عدم حصر أعداد الأطفال الذين فقدوا أحد والديهم أو كليهما بسبب ظروف الحرب، فإن مصيراً صعباً ينتظرهم بالنظر إلى ضعف إمكانيات دور الأيتام فى غزة، وحسب تقرير صدر عن برنامج النظام الوطنى لحماية الطفل والرعاية البديلة للطفل «S O S» فى عام 2017، فإنه لا يوجد سوى 4 دور فى غزة تضررت جراء قصف إسرائيلى عام 2021.
وتبلغ الطاقة الاستيعابية لدور رعاية الأيتام فى غزة 2800 طفل، علماً بأنها تحولت إلى دور إيواء لمجمل النازحين بسبب ظروف الحرب، لتُصبح بذلك الجمعيات الخيرية سبيل الأيتام الوحيد للكفالة. وقد بلغت أعداد الأطفال الأيتام قبل العدوان الأخير نحو 33 ألفاً، وفقاً لآخر إحصاء لمؤسسة «إس كاى تى ويلفير» الخيرية الإسلامية، بينما قدّرتهم مؤسسة (أورفانز إن بيند) بأكثر من 22 ألف يتيم و5 آلاف أرملة يواجهون مخاطر على سلامتهم،
كما تواجه الأرامل صعوبات لإعالة أطفالهن بمفردها. وكشفت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فى تقرير جديد لها أن نحو 17 ألف طفل فى غزة يتامى، وجدير بالذكر أن عدوان إسرائيل على غزة فى عام 2014 خلّف نحو 1500 يتيم فى القطاع نتيجة عملية (الجرف الصامد) الإسرائيلية، بينما قدّرتهم وزارة الشئون الاجتماعية الفلسطينية فى تقرير وكالة الأناضول الذى صدر وقتها بـ2000 يتيم.
وعلى صعيد الأوضاع النفسية للأطفال فى هذه المنطقة المشتعلة نقلت وكالة «رويترز» للأنباء فى أكتوبر الماضى عن منظمة إنقاذ الطفولة أن الرفاهية النفسية والاجتماعية للأطفال فى غزة وصلت إلى مستويات منخفضة بشكل مثير للقلق، حيث ترك ذلك العدوان الأطفال وهم فى حاجة إلى الدعم النفسى، ووصفوا الوضع بأنه لا يوجد هناك ما يُسمى باضطراب ما بعد الصدمة فى غزة، لأن الصدمة مستمرة مع نوبات متكرّرة من القصف تمتد إلى ما يقرب من عقدين من الزمن، وبينما ينهار الكبار وينتحبون يقف الأطفال يراقبون، ولا تظهر على وجوههم أى تعابير.
وتبحث الجمعيات الأهلية والدولية عن مخرج لتلك الأزمة فى غزة، إلا أن هناك صعوبات تواجهها عند محاولة تقديم الخدمات لهم ودعمهم، فعلى سبيل المثال أصبحت هناك صعوبة بالغة فى التبنى خلال هذه الفترة، خاصة فى ظل الأعداد الكبيرة من الأيتام وضياع الأوراق الرسمية لهم، كما ستزداد المسألة تعقيداً فى حالة خروج أيتام غزة من القطاع كلاجئين، لأن ذلك الأمر قد يُمثّل تهديداً أمنياً، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فرغم تلك الأحداث الدموية فإن المنظمات الفلسطينية ترفض وتعارض أى نقل جماعى للأيتام إلى الضفة الغربية أو إلى الخارج، لأن هذا الجيل هو الذى ستقع على عاتقه إعادة بناء غزة، ولذلك فإن هذه المنظمات تدعم صمود السكان فى مواجهة تدمير الحياة الذى تقوم به إسرائيل.
وفى هذا السياق، فقد وفّرت «يونيسف» لنحو 40 ألف طفل و10 آلاف من القائمين على رعايتهم منذ بدء الحرب وحتى الآن ما يساعدهم بقدر ما، بحيث ينجح القائمون على العمل فى إيصاله لهم، خاصة بعد أن أعلنت أكثر من مؤسسة علمية فى تقاريرها أن ما يعانيه أطفال القطاع سيكون له تأثير مدى الحياة، ويضاف إليه فقد وثائق الأحوال المدنية الخاصة بهم وبعائلاتهم تحت الأنقاض، الأمر الذى سيؤثر على الرعاية القانونية لهم، وكانت «يونيسف» قد بدأت فى توزيع أساور تعريفية فى أبريل الماضى للحفاظ على هوياتهم، إلا أن هذه العملية توقفت فجأة بسبب الغزو الإسرائيلى لرفح فى بداية مايو الماضى. ويؤكد العاملون فى منظمة التعاون أن النظام التعليمى والصحى الذى كانوا يتدخلون من خلاله مع الأيتام قد تم تدميره بأكمله.
ويرغب الكثير من المنظمات الفلسطينية، مثل التعاون وجمعية الإغاثة الفلسطينية، وصندوق إغاثة أطفال فلسطين، فى تطوير استجابة طويلة الأمد لمساعدة الأيتام عندما تنتهى الحرب، وذلك بتدريب العاملين فى مجال الأطفال والصحة، بالإضافة إلى تولى مسئولية إعادة تأهيل الجرحى وبناء دور للأيتام أو مراكز استقبال مؤقتة للعائلات.
فهل سيستطيع هؤلاء الصغار الحياة بلا شهادات ميلاد؟