مصطفى عبيد
سينما المؤلف التى غابت
[email protected]
يبدو كتاب أمير العمرى « عالم سينما المؤلف» كتابًا مؤسسًا فى سد خانات فارغة فى الكُتب المعنية بصناعة السينما فى بلادنا. والكتاب صدر عن دار «بتانة» للنشر بغلاف ساحر، ومؤلفه ناقد فنى مخضرم يستحق الالتفات والانتباه.
وما أحوجنا لمثل هذه الكتابات فى وقت تشهد فيه السينما المصرية تراجعا لافتا، غابت فيه ألوان وصنوف كُنا نفتخر بالتميز فيها.
ويبدو الكاتب متأثرا بدراسته المبكرة للطب، إذ تستهويه الكتابة التشريحية فنجده يشمل بتحليلاته ونقده كافة أعمال المخرجين الذين يكتب عنهم، وكأنه يفتح بمشرط دقيق، جسد وعقل كل منهم متغلغلا إلى ذاته، مستقرءا مشاعره.
وهو عندما يفعل ذلك يفعله بلغة آسرة وعرض جذاب وسلس، وعندما يطلق حكما أو يرى رأيا فإنه يتكئ على تحليل منطقى مقنع، حتى لأولئك الذين لم يدرسوا السينما ولم يعملوا فيها.
يؤرخ الكتاب لسينما المؤلف بمقال المخرج ألكسندر أستروك فى مجلة «الشاشة الفرنسية» مارس 1948 الذى حمل عنوان «مولد سينما طليعية جديدةـ الكاميرا قلم»، ليطرح فكرة تحول السينما إلى لغة، وتحول الكاميرا إلى قلم، وهو ما يجعل المخرج هو الفنان الأول للعمل السينمائى، وليس مجرد منفذا لأفكار وهواجس الكاتب. وهذا ما التقطه الناقد أندريه بازان بعد ذلك وعبر عنه قائلا « إن الفيلم يجب أن ينسب إلى مخرجه مادام المخرج يتحكم فى مكونات الصورة والصوت، ولابد للمخرج أن يكون مؤلفا مثله مثل الأديب سواء اشترك فى كتابة السيناريو أم لم يشترك».
ببساطة، فإن ذلك يعنى أن العمل السينمائى الحقيقى هو الذى يطرح أفكار ورؤى وهواجس المخرج وليس مؤلف القصة، وهو الطرح الذى رحب به نقاد وسينمائيون حول العالم لتلمع أسماء مخرجين تلائمهم فكرة المخرج المؤلف مثل هيتشكوك، أورسون ويلز، نيكولاس راى.
وفى 1968 أصدر اندريه ساريس كتابا عن السينما الأمريكية اختار فيه 14 مخرجا اعتبرهم الأهم وهم الذين يعبرون عن الاتجاه الجديد كان من بينهم شارلى شابلن، جون فورد، فريتز لانج، وغيرهم. وفيما بعد انطلقت الموجة الجديدة إلى بريطانيا، ألمانيا، السويد، إيطاليا، وأسبانيا، ثم إلى كافة أنحاء العالم.
ويشير العمرى إلى أن الفكرة واجهت بعض التحديات، خاصة عندما اعترض الفيلسوف الفرنسى رولان بارت(01915ـ1980) على عدم الفصل بين النص والمؤلف. لقد كان الرجل يرى أن النص منفصل عن المؤلف لتظهر بذلك فكرة موت المؤلف كإحدى أفكار ما بعد الحداثة، ما يعنى انكار دور المؤلف والغاء حضوره فى طيات العمل الفنى.
وبالطبع انتقلت سينما المؤلف إلى العالم العربى خلال الستينيات، وتأثر بها جيل العمالقة أمثال هنرى بركات، يوسف شاهين، وتوفيق صالح، لكنها حضرت بقوة فى الجيل الثالث للمخرجين مثل سعيد مرزوق، على بدرخان، وأشرف فهمى، ثم الجيل التالى عند عاطف الطيب، رأفت الميهى، يسرى نصر الله، وداوود عبدالسيد. كما تأثرت مدرسة الاخراج فى المغرب العربى تأثرا بالغا بتلك المدرسة.
ويختار لنا مؤلف الكتاب 35 نموذجا لمخرجين عالميين عبروا بقوة عن سينما المؤلف، ورغم أن ميلاد التوجه كان فى فرنسا، إلا أن استعراض النماذج تكشف أن تأثير الحركة خارج فرنسا كان أكبر.
ونطالع فى تجارب هؤلاء المخرجين، كيف هم متمردون على الواقع، مشتبكون مع التقليدية، فذلك المخرج السويدى إيخمار برجمان المولود سنة 1918، يحاول الاستغراق فى البحث فى ذاته وكأنها معادل للذات الإنسانية كلها، فنجده فى فيلم «الختم السابع» يناقش قضية الموت بعمق شديد من خلال فارس يلعب الشطرنج مع الموت. وهذا المخرج الدنماركى لارس فون ترييريعترض على ما تقوم به إسرائيل من انتهاكات، ولا يجد حرجا فى تشبيهها بهتلر، ما يؤكد تكوينه الإنسانى الفذ الرافض للظلم العصرى وهو ذات ما يطرحه فيلمه «المنزل الذى بناه جاك» 2018.
وذلك المخرج الإيطالى فرانشيسكو روزى الحائز على جائزة ماتييه الكبرى، يقف متحديا المافيا الحاكمة للسياسة وفاضحا فساد النظام الرأسمالى فى فيلم «جثث متألقة» فى الوقت الذى نجد آراءه الشخصية منحازة إلى قضايا الإنسان وآلامه، فيقف إلى جوار الشعب الجزائرى فى ثورته للإستقلال.
وتبقى السينما لُغة مشتركة للجمال فى العالم، ولا يجب التهاون فى تعلمها أو تجاهلها.
والله أعلم