نوبل أيقظت المحاذير من الجحيم النووي
كمال جاب الله
كاتب صحفي ومحاضر جامعي
[email protected]
وصلت اليابان بعد أيام قليلة من إعلان اتحاد منظمات ضحايا القنبلة الذرية (نيهون هيدانيكو) الفوز بجائزة نوبل للسلام لعام 2024، وقد تفاوتت الأصداء اليابانية والدولية للإعلان، بين إيقاظ المشاعر المؤلمة لجريمتي القصفين الذريين لهيروشيما وناجاساكي، وبين الرغبة في تحقيق عالم خال من الأسلحة النووية.
قائمة الفائزين من مختلف أنحاء العالم بجوائز نوبل، في مجالات الأدب والعلوم والسلام، تضم 29 يابانيًا، وهذه هي المرة الثانية التي تفوز فيها منظمة يابانية بجائزة نوبل للسلام، بعد مرور نصف قرن -بالتمام والكمال- على منح الجائزة (نفسها لعام 1974) لرئيس مجلس الوزراء الياباني الأسبق، ساتو إيساكو، لتخليه عن الخيار النووي بالنسبة لليابان، وجهوده الملموسة لتعزيز المصالحة الإقليمية.
منظمة نيهون هيدانيكو تأسست عام 1956، وأمام جلسة أممية لنزع السلاح النووي عام 1982، تحدث رئيسها في ذلك الوقت، ياماجاوتشي سينجي، قائلا بأعلى الصوت: “لا هيروشيما مجددًا.. لا ناجاساكي مجددًا.. لا هيباكوشا مجددًا”. هيباكوشا هي كلمة تشير إلى الناجين اليابانيين من جريمة القصف الذري الأمريكي لهيروشيما وناجاساكي، مما أزهق أرواح 240 ألف ياباني في الحال يومي السادس والتاسع من أغسطس عام 1945، ليعقبها إعلان استسلام اليابان في 15 أغسطس.
منذ عقدين، وتحديدًا في 15 أغسطس عام 2004، الموافق الذكرى المؤلمة لاستسلام اليابان، شاهدت عددًا من أعضاء هيباكوشا، ومعظمهم كانوا من كبار السن، في مراسم جرت بصالة مغطاة عملاقة بملعب “نيبون بودوكان” في وسط العاصمة طوكيو، تتسع لمشاركة نحو 7 آلاف مدعو، يتقدمهم الإمبراطور وقرينته.
وقتها، رأيت السيدة ميتشيكو أوكامورا (95 سنة) من مدينة هيروشيما، وقد فقدت اثنين من أبنائها نتيجة للقصف الذري الوحشي، وكانت هي الأكبر سنًا من بين الحاضرين، فيما كان الصبي ناؤيا ناجاياما (9 سنوات) هو الأصغر، وقد جاء للمشاركة في مراسم تخليد ذكرى وفاة جدود جدوده من ضحايا الحروب اليابانية.
العام المقبل سيوافق حلول الذكرى الـ 80 لإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجاساكي، وتخطط منظمة الـ هيباكوشا تنظيم منتدى دولي في طوكيو يومي 8 و9 فبراير المقبل، بحضور مسئولين وخبراء، للدفع من أجل القضاء على الأسلحة النووية، والاستماع لناجين من القصف الذري يزيد متوسط أعمارهم على 85 سنة.
الرئيس المشارك لمنظمة نيهون هيدانيكو، تاناكا تيرومي (92 سنة)، كان عمره 13 سنة، ويعيش مع أسرته بمدينة ناجاساكي وقت الانفجار، وقال في أول مؤتمر صحفي عقب فوز منظمته بنوبل للسلام: “إن الأسلحة النووية لا ينبغي أن تستخدم مرة أخرى”، مشيرًا إلى الأوضاع الأمنية الدولية الخطيرة والحروب الجارية الآن.
انتقد تاناكا عدم انضمام حكومته لمعاهدة حظر الانتشار النووي، كما انتقد رئيس مجلس الوزراء، إشيبا شجيرو، لتحدثه عما يسمى بـ “المشاركة النووية”، وهو ما أدى إلى تداول ردود فعل محلية ودولية واسعة حول موقف اليابان من النووي.
كان إيشيبا قد طالب -في أول مؤتمر صحفي بعد توليه منصبه مطلع أكتوبر الحالي- بمراجعة اتفاقية وضع القوات بين اليابان والولايات المتحدة، وكرر دعوته بإنشاء نسخة أسيوية من حلف الناتو، مؤكدًا أهمية التعاون الإقليمي في مجال الدفاع.
من جانبها، علقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، على ما يتردد عن نشر محتمل للأسلحة النووية باليابان، بقولها: “في هذه المرحلة لا نرى أدنى بادرة لخروج الإدارة الجديدة في اليابان عن المسار الموالي لأمريكا، والصمت المخزي عن دور حليفتها -الدائمة- في مأساة هيروشيما وناجاساكي”.
باراك أوباما الفائز بجائزة نوبل للسلام (2009) كان أول رئيس أمريكي يزور هيروشيما في عام 2016، والتقى مع رئيس منظمة نيهون هيدانيكو الأسبق، وقد وجه أوباما تهنئة للمنظمة، جاء فيها: “في الوقت الذي يتزايد فيه خطر الأسلحة النووية، وتضعف المحرمات ضد التهديد باستخدامها، يذكرنا عمل المنظمة بأن هذه الأسلحة لها تكلفة إنسانية رهيبة، وأن السعي إلى عالم خال من الأسلحة النووية يشكل جزءًا أساسيًا، للتأكد من أننا نترك لأطفالنا عالمًا أكثر أمنًا وأمانًا”.
أما الرئيس الأمريكي جو بايدن فقد قال في تهنئة مماثلة: “على مدى عقود من الزمن، كان أعضاء نيهون هيدانكيو بمثابة شهادة بشرية على الخسائر الكارثية في الأرواح التي سببتها الأسلحة النووية”، مشيرًا إلى استعداده للدخول في محادثات مع روسيا والصين وكوريا الشمالية -دون شروط مسبقة- لتقليل التهديد النووي”.
عودة للتذكير بجحيم النووي، حيث نشر موقع هيئة الإذاعة والتليفزيون اليابانية NHK تقريرًا كتبه المراسل يوشيكاوا ريويتشي بعنوان: بيانو نجا من القصف الذري في هيروشيما يلهم الأمل في السلام، جاء فيه: “عندما التهم الانفجار الذري هيروشيما، لم ينج منه إلا القليل بالقرب من مركز الانفجار، ومن بين الأشياء التي تعد تذكيرًا بفظائع النووي، هناك بيانو مملوكًا لفتاة لقيت حتفها في الهجوم”.
ولدت كاواموتو أكيكو في لوس أنجلوس في عام 1926، وفي عام 1933، انتقلت مع أسرتها إلى هيروشيما وقد أحضروا البيانو معهم، وعندما ألقت الولايات المتحدة القنبلة على المدينة في 6 أغسطس 1945، كانت كاواموتو على بعد 800 متر فقط من مركز الانفجار. وتوفيت في اليوم التالي، وكان عمرها 19 عامًا.
في عام 2022، كان البيانو مصدر إلهام لاثنين من كتاب السيناريو الألمان هما: هايكه تاوخ وفلوريان جولدبرج، لإنتاج مسرحية بعنوان “مشهد مستعار” عن موسيقيين يتأملون في آلات موسيقية كانت مملوكة لأفراد عانوا ويلات الحرب.
هناك خطط لعرض المسرحية في هيروشيما في الذكرى الثمانين للقصف الذري، وستقوم عازفة البيانو هاجيوارا مامي، التي نجا جدها وجدتها من القصف الذري، بالعزف على بيانو كاواموتو.
تقول العازفة هاجيوارا: “في هذه اللحظة، هناك على الأرجح كثيرون من أمثال أكيكو يموتون، في أوكرانيا وغزة، وغيرها، بدون أن يلاحظ العالم”.
تبقى الإشارة إلى أن آخر التقديرات حول العدد الإجمالي للرؤوس النووية في مختلف دول العالم توضح بلوغها حوالي 12512 رأسًا. تحتل روسيا المركز الأول بنحو 4380 رأسًا، تليها الولايات المتحدة 3708، الصين 500، فرنسا 300، إنجلترا 215. أما الدول التي لم تشارك في معاهدة حظر الانتشار، وتمتلك رؤوسًا نووية، فهي: الهند 172، باكستان 170، إسرائيل 90، ثم كوريا الشمالية 50 رأسًا نوويًا، ولدى بيونج يانج من المواد النووية ما يكفي لامتلاك 200 رأس نووي عام 2027، وبحلول عام 2030، سوف يصل عدد الرؤوس الحربية لديها إلى 300.