مصطفى عبيد يكتب
وكم دانينوس في مصر.
وكم أدريان دانينوس بمصر ؟؟
غريبة هي بلادنا.لاتشتهي نهار العدالة، فلا تُنصف في المجازاة، ولا تُسدد فواتير الامتنان لمن يستحقونه. تُعلى زائفين وتُطفىء نافعين، فكم ذا أبالسة تصدروا المنابر، وكم أنبياء دُفنوا أحياءا، فنسيهم الجميع.
فعند غلبة الانتهازية، وضعف الوعي، وخمود الأدمغة، يتوارى عظام، ويبرز مخادعون، وتتبدل حقائق، وتتغير أدوار، فلا يبين بطل من كاذب، ولايتضح نافع من تاجر شعارات.
تلك كانت مُقدمة ضرورية لقراءة واحدة من الروايات الحديثة، الكاشفة، الرائقة، واللافتة، والمتجاوزة لفكرة الامتاع والتسلية، إلى ضفة الكشف والانصاف وإزاحة المساحيق المضللة.
ورغم كونها الرواية الأولى لصاحبها، إلا أنها ثقيلة بما حوته من فكر، وعميقة بما طرحته من مشاعر، وطيبة بما حملته من تعاطف مع إنسان وهبنا منافع جمة.
أما الروائي، فهو وائل السمري، الذي عرفناه شاعرا رقيقا، وصحافيا استقصائيا، مُهتما بالتقليب في الأرشيفات القديمة، ليستخرج لنا حكايات لم ترو من قبل. وأما روايته، فهي “لعنة الخواجة” الصادرة قبل أيام عن الدار المصرية اللبنانية، والتي تعيد سرد حكاية اليوناني أدريان دانينوس، أعظم شخص بالنسبة للمصريين في القرن العشرين، لأنه ببساطة، ووضوح نفع الناس، كل الناس، ومازال بفكرته الخالدة وهي السد العالي.
يريد الروائي المجرب أن يقول لنا إن الأبطال مخادعين، والقادة منتفخين، وأن الكلام الكبير عن بطل مصر، وقائدها، وزعيمها، وعظيمها في غير محله. فمن أحمد عرابي، إلى مصطفى كامل، وصولا إلى جمال عبد الناصر، شهدنا خطايا وسقطات، وفي المجمل فإن ما تركوه من تراث وعمل وآثار عليه خلاف وخلاف.
وجميعهم رغم ذلك، نالوا أوسمة تقدير، وربحوا قصائد مدح، وحظوا بوصلات تصفيق، بينما هناك عظيم أكبر وكبير أعظم ربما لا يعرفه كثيرون، وهو صاحب فكرة السد العالي : أدريان دانينوس.
أدريان، بمعنى الثري باليونانية، ابن مهاجر يوناني أحب مصر وسكنها في زمن التحامها بالحداثة، ولد في أبريل ، 1887 وارتبط لدى البعض بكذبة أبريل، فاعتبره كثيرون مجنونا، واحتسب ساسة ومسئولون ما يقوله باعتباره وهما وخيالا، لكنه ظل يُلح وُيلح، ويلف ويدور، ويكتب ويتحدث، ويطرح ويخطط، ويقابل كل شخص يُمكن أن يستمع إليه ليخبره أنه يمكن بناء سد عالي لتأمين احتياجات مصر من المياه خلال الفيضان، ولتوليد الكهرباء.
تعذب أدريان دانينوس في أروقة البيروقراطية، تجاهله الساسة، وهوجم، وتعرض للسخرية، وعندما التقطته ثورة يوليو لترسم أمجادها، همشته وجنبته، وقدمت الدولة الحليفة وهي الاتحاد السوفيتي، وقدمت الكوادر الروسية عليه، فانزوى وعانى بسبب لقب ” الخواجة”، ثم نسيه الناس.
بشغف الباحث، وبروعة المبدع، استغل وائل السمري أرشيف أوراق دانينوس ليكتب لنا حكايته الإنسانية التي ساهمت في تغيير حال المصريين جميعا، وحال التاريخ نفسه. وليس علينا إلا أن نتخيل ما كان حال مصر الآن، إن لم يكن هناك سد عال.
أتذكر مقولة آسرة كتبها الباحث النرويجي المفتون بالنيل تارييه تيفت في كتابه “النيل أعظم أنهار التاريخ”، إن شرعية أي حاكم مصري مرهونة بقدرته على ضمان تدفق الكمية الكافية من مياه النيل لري الحقول” لأتخيل كيف كان هذا المشروع الذي فكر فيه وابتكره وتبناه خواجة يوناني داعما للدولة المصرية الجديدة الذي تأسست في يوليو 1952، وتمددت وتطورت إلى يومنا.
تلمع صورة “دانينوس” لنتذكر كيف حورب، ووجه، ونُسي، وتوارى ذكره في ظل تمدد لظاهرة “رهاب الأجانب” التي كبرت مع سطوع نظام عبد الناصر، ثم ارتدت أردية التربص والتشكك بالغرباء وتخوينهم مع اتساع المد الديني فيما بعد.
تُمتعنا رواية وائل السمري، بشخوصها وتداخلات الأزمنة، وذلك المزج الجميل بين الواقع والخيال، لكنها تذكرنا أيضا بجرائم شتى ارتكبت تجاه أجانب نافعين تمصروا حبا في هذه الأرض، لكن بعض بنيها أنكروهم وطمسوا ذكرهم.
لقد كانت هناك آثار عظيمة لكثير من الأجانب الذين أحبوا مصر فعلا لا قولا، وتركوا بصمات خير واضحة وخالدة لا يُنكرها إلا مجحف. هيئة الاسعاف المصرية قامت سنة 1916 على تبرعات رأسماليين أجانب أشهرهم الإيطالي صامويل سورناجا. اتحاد الصناعات المصرية أنشأه أجانب وترأسه للمرة الأولى البلجيكي هنري نوس. إنارة الشوارع الحديثة استفادت من الصناعات العظيمة التي أنشأها اليوناني كوتيسكا. ونقابات العمال وحقوقهم نمت في ظل أنظمة وضعها الأرمن واليونانيون بمصانع الدخان في مصر.
ورغم كل هذا اعتبرت الكتب الأكاديمية الصادرة عقب ثورة يوليو الرأسمالية الأجنبية مجموعة انتهازيين ولصوص. فصارت آفة حارتنا النكران لا النسيان وحده كما يقول نجيب محفوظ.
والله أعلم