خريف ضبابي في المشهد السياسي الياباني
كمال جاب الله
كاتب صحفي ومحاضر جامعي
[email protected]
خريف اليابان هو أفضل فصول السنة، بمناخه المعتدل وطبيعته السخية، حيث تتزين -في هذا التوقيت- أشجار الجبال والحدائق، باللونين الذهبي والأحمر، وتتفجر ينابيع المياه الساخنة لتروي ظمأ الباحثين عن متعة الروح والجسد، معًا.
هذا هو رأيي في فصل الخريف باليابان منذ عهدته، مقيما وزائرًا، على مدار 23 عامًا، وإن كان المشهد السياسي –الحالي- في بلاد الشمس المشرقة يبدو ضبابيًا للمراقبين والزائرين، بما قد يحمله من مفاجآت، ستقررها صناديق الاقتراع اليوم.
بعد مرور 12 يومًا على بدء حملة انتخابية حامية، يتوجه الناخبون اليابانيون اليوم، الأحد 27 أكتوبر، للإدلاء بأصواتهم لاختيار مجلس نيابي جديد، بعد 26 يوما -فقط- من تولي الزعيم إيشيبا شيجيرو منصبه، رئيسًا لمجلس الوزراء، وهي أقصر فترة في تاريخ اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، على أمل كسب تأييد الناخبين لإدارته الجديدة، وهو العرف المتبع لحزبه الليبرالي الحاكم منذ تأسيسه.
بكل المقاييس يعتبر الحزب الليبرالي الياباني محظوظًا، حيث احتفظ بالسلطة -بثبات- على مدار أربعة عقود -تقريبًا- من خلال صناديق الاقتراع، وتحديدًا منذ تأسيسه في عام 1955، غير أن اليابان تواجه -في الوقت الراهن- تحديات أمنية ودولية وإقليمية هائلة، بالإضافة إلى ضغوط اقتصادية متزايدة، تستدعي التغيير.
أيضًا، يصوت اليابانيون اليوم على سياسات الأمن القومي المستجدة، والإصلاحات السياسية على خلفية فضائح جمع التبرعات، التي لحقت بالحزب الليبرالي الحاكم، بالإضافة إلى معالجة انخفاض معدلات المواليد والتدابير الواجبة لمواجهة التضخم.
وفقا لاستطلاع رأي كبار مصنعي الأغذية والمشروبات، أجرته شركة الأبحاث اليابانية الخاصة “تيكوكو داتا بانك” تشهد اليابان ارتفاع أسعار نحو 2900 سلعة من الأغذية المصنعة، وتوقع الاستطلاع أن يبلغ إجمالي عدد السلع المتأثرة بارتفاع الأسعار هذا العام نحو 40% من إجمالي السلع.
لمواجهة التضخم، طلب إيشيبا من مجلس وزرائه التحضير لحزمة اقتصادية جديدة تهدف جزئيًا إلى دعم الأسر ذات الدخل المنخفض التي تأثرت بارتفاع الأسعار، وتوسيع نطاق الإعانات المقدمة للحكومات المحلية وتسهيل زيادة الأجور للشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم لدعم الطبقات العاملة، والقضاء نهائيًا على الانكماش الاقتصادي، إلى جانب تدابير لحماية المواطنين بشكل أفضل من الكوارث الطبيعية.
انتخابات اليوم تشمل جميع المقاعد النيابية، وتبلغ 465 مقعدًا، تنقسم إلى 289 مقعدًا بالدوائر الفردية، و176 مقعدًا بنظام التمثيل النسبي، ويتطلب تحقيق الأغلبية الفوز بـ 233 مقعدًا.
اللافت للنظر أن الائتلاف الحاكم كان يشغل أغلبية مريحة تضم 290 مقعدًا على مدار 3 سنوات، غير أن إيشيبا فضل الدعوة لانتخابات مبكرة، لماذا؟
السيد إيشيبا شيجيرو هو رئيس مجلس الوزراء رقم 102 في اليابان، وبدا -من خلال تصريحاته- أنه “يريد إجراء انتخاباتنيابية مبكرة حتى يتمكن اليابانيون من إظهار مدى حرصهم على دعم حكومته الجديدة، أو النظر في خيارات أخرى”.
هنا أستأذن القارئ لرواية لفتة عن شخصية رئيس مجلس الوزراء الياباني إيشيبا، لمستها -بنفسي- في أثناء مقابلة حصرية معه، عندما كان وزيرًا للدفاع، تحديدًا في يوم 21 مايو من عام 2004، ونشرتها “الأهرام” بتاريخ 9 يونيو عام 2004.
وقتها، أظهر إيشيبا اهتمامًا عاليًا بالرأي العام العربي، وهو يستقبل طلائع انضمام قوات الدفاع الذاتي اليابانية لدعم التحالف الدولي بالعراق، موضحًا ضرورة تفهم مهمة قواته المنصبة على تحسين الحالة المعيشية للسكان وليس احتلالها وحكمها.
تحدث إيشيبا، وقتها، عن وجود أخطاء للاحتلال الأمريكي بالعراق، وقال: “توجد معاهدة دفاع مشترك بين اليابان والولايات المتحدة، لكن لا يمكن تفعيلها في العراق احترامًا للدستور الياباني، ووفقًا لاستطلاعات الرأي العام، حينها، فإن العراقيين أبدوا الرغبة في تلقي مساعدات من اليابان، وليس من أمريكا وفرنسا أو ألمانيا”.
نجحت رؤية إيشيبا في اكتساب تفهم الرأي العام العربي، وأكملت قوات الدفاع الذاتي اليابانية مهمتها -بنجاح- في بناء المدارس والمستشفيات والمرافق الخدمية وغيرها، بالمناطق التي كانت موكلة لها بالعراق، بدون أية خسائر مادية أو بشرية.
أعود لملف الانتخابات النيابية الساخنة، التي يتنافس على الفوز بنتائجها الحاسمة قطبان حزبيان يابانيان كبيران، هما الحزب الليبرالي الحاكم، وغريمه الدستوري الديمقراطي بزعامة رئيس مجلس وزراء أسبق، نودا يوشيهيكو، الذي أعد العدة لإلحاق الهزيمة بالحزب الليبرالي، بالتعاون مع أحزاب المعارضة اليابانية الأخرى.
زعيم أكبر أحزاب المعارضة اليابانية، نودا يوشيهيكو، انتقد- في الأساس- خطوة إيشيبا بحل مجلس النواب، ودعوته لانتخابات نيابية مبكرة، وقال: “إن إيشيبا وصف -في السابق- الحزب الليبرالي الحاكم بأنه حزب يلتزم بالقواعد، غير أن رئيس مجلس الوزراء الجديد فشل في الوفاء بتعهده، لهذا فإنه يشعر بخيبة أمل شديدة بسبب هروب إيشيبا من نقاش في البرلمان.
في ضوء كل ذلك، استعد الحزب الدستوري الديمقراطي للمعركة الانتخابية، بالتعاون مع أحزاب المعارضة الأخرى، كي يتمكنوا -جميعهم- من تقديم مرشحين مشتركين في الدوائر الانتخابية ذات المقعد الواحد، على أمل أن تحقق هذه الخطوة إلحاق الهزيمة بمشرعي الحزب الليبرالي الديمقراطي الذين تلاحقهم الفضائح.
البروفيسور سيريكاوا يوئيتشي الأستاذ الزائر بجامعة توكاي، يقول نصًا: “إننا عند نقطة تحول في السياسة اليابانية، كما أننا على وشك معرفة ما إذا كان تغيير القيادة الحزبية والانتخابات العامة -اليوم- سوف يبشران بميلاد نهج سياسي جديد، أم سيؤديان إلى الصراع والانقسام”؟
على مدار أربعة عقود، حافظت السياسة اليابانية على مسار ثابت تمثل في سيطرة الحزب الليبرالي الديمقراطي على السلطة، بغض النظر عن التحولات الاجتماعية والسياسية في اليابان، ولكن اليابان تبدو اليوم على أعتاب تغيير سياسي كبير، مع تولي إيشيبا شيجيرو رئاسة الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم، وفي الوقت الذي يسعى فيه نودا يوشيهيكو لتوجيه الحزب الدستوري الديمقراطي المعارض نحو الوسط لتعزيز فرصه الانتخابية، تتسارع وتيرة التغيير في المشهد السياسي.
في مقال بموقع “نيبون دوت كوم” يقول البروفيسور سيريكاوا بجامعة طوكاي: “حتى وقت قريب، كان إيشيبا يعتبر من الساسة الذين عفا عليهم الزمن، وما كان ليحظى بفرصة العودة للساحة لولا الكشف عن فضيحة داخل الحزب الحاكم”.
يضيف: “في الوقت نفسه، عاد رئيس الوزراء الأسبق نودا إلى الساحة السياسية بعد الهزيمة الساحقة التي تعرض لها في انتخابات نيابية مبكرة، جرت عام 2012، وهي الهزيمة التي جعلته يتنحى عن زعامة الحزب الديمقراطي، وأعيد اختياره الآن كزعيم جديد للحزب الدستوري الديمقراطي، بالتالي فإن الصدام بين نودا وإيشيبا بالانتخابات النيابية -اليوم- قد يؤدي إلى إعادة تشكيل السياسة اليابانية”.