ملهمتي الجديدة
خديجة حمودة
أن تفقد الأحلام السعيدة والخواطر الغارقة في معاني الحب والشوق والصور زاهية الألوان، وتنسى كلمات أغانٍ عاشت معك عقودا من الزمن، بل وتنسى إيقاعها ورناتها وآهات المطربين والمستمعين المندمجين مع الكلمات وذكرياتهم التي تحركها وتدفعها للأمام تلك المشاهد، فهناك معنى خطير وراء كل ذلك،
والأمر الأكثر قسوة أن تفرغ ذاكرتك من رائحة شجرة الياسمين ومسك الليل الذي يقتحم غرفتك من نافذتك الصغيرة وملمس الورد الجوري وكأنه يُقبّل يدك، ومشهد تلك الحدائق الصغيرة المنتشرة في منازل الأصدقاء وأضوائها التي تسهم في رسم الأحلام ومذاق طعام الجدة وفطائر الأعياد وحلوى أعياد الميلاد، التي تمكث بالليالي تعدّها للصغار وصورة ثياب العيد وضفائر الصغار وخطواتهم المتعجّلة للوصول إلى سن الشباب،
وألا تجد في رأسك أيا من أسماء الكتب التي عشت معها ليالٍ، وأسماء أبطال كل قصة تمنيت أن تعيشها بأحداثها وتفاصيلها الدقيقة، وإن توقفت يداك وعيناك عن البحث بين قنوات الأفلام الكوميدية والرومانسية والتاريخية، وأصبحت لا تبحث إلا عن تلك الشاشات التي تعلق لافتة «على الهواء» و«آخر الأخبار» والعاجل منها والمباشر وإحصائيات الضحايا والمفقودين.
إن وصلت إلى هذه النقطة فاعلم أنّ الأحداث الدموية والحروب والانقلابات ومحاولات الاستيلاء على السلطة واغتيال العلماء المميزين واعتقال أصحاب الرأي والمعارضين، كل ذلك أطاح بتكوينك المهني والعقلي والعاطفي والاجتماعي، بل وصل الأمر إلى جميع حواسك، التي كانت تسمح لك بتذوق الأطعمة والاستمتاع بها والاندماج مع المجتمع الصغير الخاص بك والمجتمع الكبير، بل والعالم كله.
واعلم وتأكد أنّ المرحلة الجديدة التي ستعيشها هي فقْد الإلهام والوحي، فقد تغيرت ملهمتك لكتاباتك وإبداعاتك واحتل مكانها ألبوم صور تلك الحرب التي تعيش عامها الثاني على التوالي، والأخرى التي وصلت إلى الثالث، وتلك الخطط التي تدعو إلى التقسيم والاحتلال ورسم شرق أوسط جديد تتقلص فيه الأرض والأماني، وتأكد أنك إنسان، وأنك وصلت إلى درجة عالية من رُقي المشاعر والإحساس.
وفي توثيق لتلك المعاني التي بدأنا بها الحديث يحذّر تقرير لمنظمة الصحة العالمية نُشر في مارس 2022 تحت عنوان الصحة النفسية في حالات الطوارئ، من أنّ بين الأشخاص الذين شهدوا حروبا أو نزاعات أخرى خلال السنوات العشر الماضية سيُصاب واحد من كل خمسة، أى نحو 22% بالاكتئاب أو القلق، أو اضطراب الكرب، أو اضطراب ما بعد الشدة النفسية، أو الاضطراب الثنائي القطب، أو الفصام، كما أنّ الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية شديدة معرّضون للخطر، بالأخص أثناء الطوارئ، ويجب أن تُتاح لهم رعاية الصحة النفسية، وأن تلبى حاجاتهم الأساسية الأخرى. ويحدّد تقرير المنظمة عدة أنواع من المشكلات الاجتماعية والخاصة بالصحة النفسية في أي طارئة كبرى، منها المشكلات الموجودة أصلا مثل الفقر والتمييز ضد الفئات المهمّشة.
وكذلك المشكلات المترتبة على الطوارئ مثل الانفصال الأسري وانعدام الأمان وفقدان أسباب الرزق واختلال شبكات النسيج الاجتماعي وانخفاض درجة الثقة والموارد، والمشكلات المترتبة على الاستجابة الإنسانية مثل الاكتظاظ وفقدان الخصوصية وتقويض الدعم المجتمعي أو التقليدي.
وتشير الأبحاث الصادرة عن الكلية الملكية للأطباء النفسيين البريطانية إلى أنّ أعراض الاضطراب النفسي بعد الحروب تظهر بعد أسابيع، أو في غضون 3 أشهر، وبينها أعراض فسيولوجية، مثل ألم العضلات وعدم انتظام النبض والصداع، واضطرابات في الشهية، وتتزامن الأعراض الفسيولوجية مع أخرى نفسية تُسيطر على المصاب، مثل نوبات الفزع والخوف والاكتئاب والقلق والشعور بالذنب، وقد تصل إلى الأفكار والميول الانتحارية.
وتعتبر المنطقة العربية من أكثر المناطق في العالم تعرّضا للنزاعات المسلحة وأشدها حساسية وافتقارا إلى الاستقرار، بعد أن شهدت تطورات كثيرة في الوضع السياسي في السنوات العشرين الأخيرة، وتفاقمت الحروب والنزاعات الداخلية والاستعمارات الجديدة، ومع تطور التكنولوجيا والآلات الحربية فإنّ الضرر الاقتصادي والبشري يزداد فداحة، وبالتالي تتفاقم معاناة المرأة بشكل خاص، وفي الحروب تصعب المطالبة بالتغيير وإعمال حقوق المرأة، إذ يحظى الوضع العام ومصير البلد بالأولوية، ورغم ذلك لا تزال المنطقة العربية بعيدة عن الأخذ بالمبادئ والحلول التي تضمّنتها التشريعات الدولية، على سبيل المثال قرار مجلس الأمن رقم 1325 «المرأة، والسلام، والأمن» الصادر عام 2000، أى منذ ما يقرب من 24 عاما.
وكان قد صدر تقرير التنمية الإنسانية العربية، الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعنوان الشباب وآفاق التنمية الإنسانية في واقع متغير، والذي يتحدّث عن آثار الحرب والنزاع العنيف على الشباب، ويشير التقرير إلى أنّ المنطقة العربية شهدت خلال العقد الماضي أسرع ازدياد في الحرب والنزاع العنيف، وصارت موطن أكبر عدد للاجئين والنازحين في جميع أنحاء العالم، وما ترتب على ذلك من نتائج، منها الآثار السلبية في الصحة النفسية للمواطنين.
ويبقى السؤال الذي يُلح علينا ويتكرّر في كل لحظة نرى فيها كلمة «آخر الأخبار»، أو «عاجل»، متى سيعود السلام والأمان وننعم بالحب والأرض والوطن؟.