ديمقراطية كوريا الجنوبية تهز عرش الشمال
كمال جاب الله
عندما أعلن الرئيس الكوري الجنوبي (الموقوف) يون صوك-يول، حالة الطوارئ، وتطبيق الأحكام العرفية في أوائل شهر ديسمبر الماضي، قال نصًا: “إنه يستهدف القضاء على القوى الموالية لكوريا الشمالية والدفاع عن النظام الدستوري الحر”.
بعد مرور ساعات قليلة من خطاب “يون” المتلفز وإلغاء حالة الطوارئ، بناء على قرار اعتمدته الجمعية الوطنية بالإجماع، أصدر رئيس هيئة الأركان المشتركة، كيم ميونج-سو، أمرًا عسكريًا لقواته “بحماية سلامة الشعب كأولوية قصوى، والحفاظ على وضع الاستعداد القتالي الحازم، حتى لا تصدر كوريا الشمالية أحكامًا خاطئة”.
في الوقت نفسه، أجرى الأدميرال كيم ميونج-سو محادثات هاتفية مع الجنرال بول لاكاميرا، قائد القوات الأمريكية في كوريا، وقائد قيادة الأمم المتحدة وقيادة القوات المشتركة الكورية الجنوبية-الأمريكية، وأكد- كيم- أن “الجيش الكوري الجنوبي يحافظ على وضع الاستعداد الكامل، ضد الاستفزازات الكورية الشمالية المحتملة”.
التطورات السياسية الخطيرة، والاضطرابات التي عانى -ويعاني- منها الشعب الكوري، ولم ير مثيلًا لها منذ عام 1979، استقبلها الشطر الشمالي، بداية، بصمت مطبق لمدة أسبوع، على عكس ما جرى في أعوام سابقة، عندما نشرت وسائل الإعلام الشمالية تغطية سريعة لعزل الرئيسة -آنذاك- بارك كون-هيه، وكذلك الحال، عندما جرى نشر قرار رفض عزل الرئيس الأسبق روه مو-هيون في عام 2004.
وزارة الوحدة في سول ذكرت أن بيونج يانج لم تظهر دائمًا ردود فعل حساسة تجاه المواقف السياسية الخطيرة التي واجهت الأولى في الماضي، مستشهدة بمسيرات الشموع التي نظمها الكوريون الجنوبيون في عام 2016 والتطورات التي أدت إلى عزل الرئيسة بارك، وفسر مسئول بالوزارة صمت الشمال، بقوله: “نظرًا لأن بيونج يانج شاهدت التطور الديناميكي للديمقراطية في كوريا الجنوبية، فقد تكون مدركة أنه ليس من الواقعي -ولا من الممكن- أن يتدخل الشمال في الوضع بالجنوب”.
تعددت آراء الخبراء في سول حول تفسير الصمت -المريب- الذي أظهرته بيونج يانج، بداية، تجاه الاضطرابات السياسية الأخيرة في الشطر الجنوبي، ومن بين التفسيرات مثلًا: كوريا الشمالية قد تحاول استخدام الأزمة كأداة دعائية لإثارة العداء تجاه سول، ربما استهدف الصمت تجنب الاستفزازات غير الضرورية في لحظة طارئة وحرجة يمر بها الجنوب، خوف بيونج يانج المحتمل من التأثير الاجتماعي على الرأي العام في كوريا الشمالية، أما رئيس جامعة الدراسات الكورية، يانج سو-يجين، فهو يرى: “أن حجب التقارير الإخبارية عن التطورات بسول، يستهدف منع أي تأثير سلبي على النظام الداخلي لقيادة الحزب بالشمال”.
للمرة الأولى منذ بدء الأزمة السياسية في سول، وتحديدًا في يوم 11 ديسمبر -أي بعد مرور أسبوع تقريبًا- نشرت وسائل الإعلام الكورية الشمالية سلسلة من التقارير “بصيغة هجومية شديدة اللهجة” عن التطورات في الجنوب، بقولها مثلا: “الحادث المروع لنظام الدمية يون صوك-يول، الذي أشهر -بلا تردد- بنادق وسكاكين ديكتاتورية الفاشية، ليحدث الفوضى في جميع أنحاء كوريا الجنوبية”.
أيضًا، ذكر تقرير نشرته وكالة الأنباء الشمالية، نصًا: “أن المجتمع الدولي يراقب بصرامة، ويقيم الوضع الناتج عن حادثة الأحكام العرفية، التي كشفت نقاط الضعف بالمجتمع الكوري الجنوبي، كما أن مسيرة يون صوك-يول السياسية، التي وصفها المتظاهرون ضد الرئيس بالكارثة، تستوجب إقصاءه فورًا، ويلقى نهاية مبكرة”.
في اليوم التالي، 12 ديسمبر، واصلت وسائل الإعلام الشمالية نشر التقارير الدعائية المناهضة للجنوب، ووصفت الأزمة في سول بالفوضى السياسية المدبرة مع سبق الإصرار والترصد، مشيرة إلى الاحتجاجات الشعبية لمعاقبة المتمردين.
في المرة الثالثة والأخيرة -يوم أمس الأول 3 يناير- نشرت وسائل الإعلام الكورية الشمالية تقريرًا إخباريًا شاملا، وبالصور، تناول تداعيات إقصاء الرئيس الكوري، يون صوك-يول، ووصفت بيونج يانج الشطر الجنوبي بأنه “مشلول سياسيًا ويعيش فوضى اجتماعية”، في حين ينعم النظام بكوريا الشمالية بالاستقرار.
هكذا.. وظفت آلة الدعاية الكورية الشمالية تداعيات الأزمة السياسية التي شهدها -ويشهدها- الشطر الجنوبي، وقد استخدمت بيونج يانج كل إمكاناتها “لشيطنة” الممارسات الديمقراطية بسول، لتبدو في أسوأ صورها لدى الرأي العام المحلي بالشمال، من ناحية، ولإظهار مساحة النعيم التي يتمتع به شعبها، تحت سقف الحزب الشمولي الواحد، والأهم تأكيد سلامة النهج المتبع للانفصال عن الجنوب.
رسميًا، كوريا الشمالية تصف جارتها الجنوبية بالدولة المعادية رقم واحد، وقد تدهورت العلاقات في العام الماضي، ولم تتوقف مظاهر التوتر عند حدود استئناف بالونات القمامة، والبث الدعائي عبر الحدود، بل اتخذت بيونج يانج العديد من الإجراءات الانفصالية لفكرة التوحيد الوطني بشبه الجزيرة، واتضح أن منظمات مثل: مجلس المصالحة الوطنية، ولجنة إعادة التوحيد السلمي للوطن، قد اختفت، كما أعيد تسمية إدارة الجبهة المتحدة للحزب إلى المكتب العاشر لحزب العمال.
أيضًا، جرى هدم النصب التذكاري لميثاق التوحيد الوطني في مدينة بيونج يانج، الذي تم بناؤه لإحياء ذكرى الإنجازات السابقة في العلاقات بين الكوريتين، بالإضافة إلى ذلك، وفي كلمات النشيد الوطني لكوريا الشمالية، جرى تغيير عبارة “شبه الجزيرة الكورية بأكملها”، إلى “هذا العالم”، وتغيير اسم محطة “تونج إيل”، أي “التوحيد”، بمترو الأنفاق في بيونج يانج، إلى محطة “مورانبونج”، الأكثر من ذلك، ولتأكيد الانفصال الكامل والأبدي، قامت كوريا الشمالية بإنشاء جدار وزرع ألغام على طول خط ترسيم الحدود العسكرية بين الكوريتين، كما هدمت وفجرت خط “كيونجاوي” وخط “دونج هيه”، اللذين كانا يربطان الكوريتين بريّا.
وقد وجهت حكومة كوريا الجنوبية انتقادات لهذه التحركات ووصفتها بأنها “أعمال مناهضة للتوحيد، ومناهضة للوطن، وتخون رغبة الشعب الكوري في التوحيد”.
أيضًا، وفي شهر يونيو الماضي، جرى تعليق مفعول الاتفاقية العسكرية، الموقعة بين الكوريتين، بشكل كامل، وردًا على توزيع منشورات مناهضة لكوريا الشمالية من قبل المنظمات المدنية الكورية الجنوبية، أطلقت كوريا الشمالية أكثر من 6600 بالون قمامة، باتجاه كوريا الجنوبية في 32 مناسبة منذ شهر مايو الماضي، وفي المقابل استأنف الجيش الجنوبي في شهر يوليو عمليات البث الصوتي عبر الحدود.
هذه الإجراءات الانفصالية، “الأبدية والمتتالية”، التي اتبعتها -وتتبعها- بيونج يانج تظهر -كما نوه خبراء مسبقًا- مدى مخاوف النظام الشمالي من إمكانية اهتزاز عرشه، بتأثر الرأي العام المحلي -هناك- بالحيوية، وبالمشاركة الشعبية، وبالحراك السياسي بالجنوب، وليظل التوتر سيد الموقف، وسائدًا ومتصاعدًا، في كل أنحاء كوريا طوال الوقت، وفي أيامه الأخيرة، يزداد القلق بفعل الأزمة السياسية بسول.