في كوريا واليابان.. تسقط “ثقافة” الانتحار
كمال جاب الله
مشاعر عميقة بالحزن والأسى تجمعني مع أصدقاء كوريين، ومن قبلهم مع يابانيين، عند تطرق الحديث لتفشي “ثقافة” الانتحار في بلادهم، لأسباب غير مفهومة دوافعها، بالرغم من مظاهر العز، التي ينعمون بها، مقارنة بالعديد من شعوب العالم.
أحدث الإحصائيات المتوافرة عن متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لكل من كوريا الجنوبية واليابان في عام 2023، تشير إلى أنه يبلغ حوالي 35.5 ألف دولار أمريكي سنوياً في الدولة الأولى، ونحو 34 ألفاً سنوياً، في الثانية على التوالي.
في عام 2024، بلغ عدد سكان كوريا الجنوبية نحو 51.75 مليون نسمة، ونظيره في اليابان حوالي 125 مليوناً، وتراجع متوسط دخل الفرد في الدولة الثانية -مقارنة بالأولى- لأول مرة منذ عام 1980، لتحتل اليابان المرتبة 32 من بين 38 دولة عضواً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو أدنى مستوى منذ عام 1970.
آخر حالة انتحار مروعة جرت في سول، وهزت مشاعر متلقيها في الداخل والخارج، تتعلق بإقدام ممثلة، جميلة، وفي ريعان الشباب، كيم سيه-رون (24 سنة)، على التخلص المفاجئ من حياتها، وسط أحاديث عن تعرضها للتنمر والملاحقة، عبر منصات التواصل الاجتماعي، نتيجة لضبطها في حالة سكر في أثناء قيادة السيارة!
في عام 2023، بلغ إجمالي عدد حالات الانتحار في كوريا الجنوبية 13770 حالة، بزيادة 6.7% عن العام السابق، وفي شهر يناير عام 2024، وحده، بلغ عدد المنتحرين 1321 حالة، بارتفاع نسبته 34% مقارنة بالشهر نفسه من العام السابق، وأرجعت وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية الكورية الارتفاع الحاد في حالات الانتحار إلى ما يسمى بتأثير الانتحار تقليداً للغير، بعد انتحار أحد المشاهير، وحثت وسائل الإعلام الكورية على توخي الحذر، عند نقل أخبار انتحار المشاهير.
أمرت الحكومة وسائل الإعلام بالامتناع -تماماً- عن ذكر تفاصيل الطرق والأماكن والدوافع في التغطية الإخبارية للانتحار، وتجنب استخدام عبارات مُلطفة مثل “قرار جذري”، والتي غالباً ما تستخدم لوصف حالات الانتحار، ووضعت مبادئ توجيهية بشأن تغطية أخبار الانتحار للمنصات الإعلامية، مثل “يوتيوب” وغيرها.
في الوقت نفسه، تُخطط حكومة كوريا الجنوبية لتقديم ما يصل إلى مليون وون، أي نحو 726 دولاراً أمريكياً، للعلاجات الطبية للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و34 عاماً، ممن حاولوا الانتحار، كما قررت تصنيف مادة نتريت الصوديوم، التي تُستخدم في إنتاج اللحوم المصنعة، كمادة كيميائية، يمكن استخدامها في الانتحار؛ حيث إن استهلاك حتى حوالي 4 جرامات منها قد يؤدي إلى الوفاة، وبمجرد تصنيفها، يمكن معاقبة من يبيعونها -عبر الإنترنت بقصد التحريض على الانتحار- بالسجن لمدة تصل إلى عامين، أو بغرامات تصل إلى 20 مليون وون.
أيضاً في اليابان، التي تتفشى فيها ثقافة الانتحار، القميئة، أظهرت الإحصاءات الرسمية تسجيل 20268 حالة انتحار في عام 2024، بانخفاض قدره 1569 حالة، مقارنة بالعام السابق، وهو ثاني أدنى إجمالي لحالات الانتحار منذ عام 1978.
بالرغم من الانخفاض في إجمالي عدد حالات الانتحار في اليابان، إلا أن المجتمع أُصيب بالصدمة للارتفاع غير المسبوق في عدد الأطفال والتلاميذ الذين أقدموا على هذا الفعل المروع، حيث ارتفعت الحالات بمقدار 53 حالة، ليصل العدد الإجمالي إلى 1072 حالة، وهو الرقم الأعلى، منذ بدء جمع بيانات حالات الانتحار عام 1980.
الأكثر إثارة للقلق، هو الزيادة في عدد الفتيات اللاتي انتحرن، حيث سجلت 288 حالة انتحار، متجاوزة بذلك عدد الأولاد، الذي بلغ 239 حالة، وهو ما يمثل -لأول مرة في تاريخ الإحصاءات- تجاوز عدد الفتيات عدد الأولاد في هذه الفئة العمرية، مما يُسلط الضوء على الضغوط النفسية والاجتماعية التي قد تؤثر على هذه الفئة.
ظل إجمالي حالات الانتحار بين تلاميذ المدارس اليابانية يتراوح بين 300 و400 حالة منذ عام 2011، وحتى وقوع جائحة كورونا في عام 2020، عندما ارتفع إلى 499 حالة، ومع ذلك حتى بعد انتهاء الجائحة، ظل العدد عند حوالي 500 حالة.
فيما يتعلق بالأسباب، ووفقاً لإحدى التحليلات الصحفية، ظلت المخاوف الصحية هي الدافع الأكثر شيوعاً، وراء اتخاذ قرار الانتحار في اليابان، حيث كانت عاملاً مُساهماً في 11963 حالة، مما يشير إلى الحاجة المستمرة إلى تعزيز الدعم النفسي والطبي للأفراد، الذين يعانون من الأمراض، كما تسببت القضايا الاقتصادية والمعيشية في 5075 حالة، مما يعكس الوضع الاقتصادي الياباني الصعب لبعض الأسر، بينما كانت القضايا الأسرية وراء 4334 حالة انتحار، مما يُسلط الضوء على التأثير العاطفي للعلاقات الأسرية، والاحتكاكات الداخلية في حياة اليابانيين.
مثلما تبذل سلطات كوريا الجنوبية جهوداً واسعة للحد من تفشي ظاهرة الانتحار، أطلقت الحكومة اليابانية موقعاً إلكترونياً، مُخصصاً لتقديم معلومات سهلة الفهم حول التدابير الحكومية للوقاية من الانتحار، بالإضافة إلى توفير خطوط ساخنة وخدمات دعم عبر منصات التواصل الاجتماعي، كما أضافت وكالة الأطفال والأسر قسماً خاصاً على موقعها الإلكتروني، يُسهل على الأطفال الوصول إلى خطوط ساخنة مُخصصة لهم، مما يعكس الاهتمام المتزايد بتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للأجيال اليابانية الشابة، من خلال نهج مُتكامل، مع التركيز على توفير الدعم للأفراد في مختلف مراحل حياتهم، وخاصة الفئات الأكثر عرضة للخطر.