الدكتورة خديحة حمودة
تكتب قمح وزيت عمارة البيت
وما زالت صور الغزاويين تبهرنا وتدفعنا لحب الحياة وتملأ نفوسنا بالأمل وتفتح شهيتنا لطعام أمهاتهم وجداتهم، فنبحث عن فطائرهم وخبزهم وحلواهم التي تغلبوا بها على صقيع المناخ ورسموا الضحكات على وجوه الصغار، حتى الأيتام منهم، فقد جلسوا حول الكانون مع الجارة العجوز التي احتضنتهم.
وكل ما لديها طحين وماء وذرات ملح والقليل من السكر، من تلك المكونات أعلنوا للعالم أنهم عادوا وما زالوا إحياءً ويبتسمون ويلتفون حول نيران الطعام للتدفئة وحديث الذكريات، ويمارسون طقوسهم فى تناول الشاي مع المخبوزات التي صنعوا من أجلها بأيديهم أفراناً بدائية ومواقد من الحطب بسيطة لتقوم النساء بإعداد الطعام.
وللأكلات الفلسطينية قصة ممتعة وجزء من التراث والموروث الثقافي الذى حاول الإسرائيليون سرقته ونسبه إلى أنفسهم، فمن أشهر الأمثلة الشعبية الفلسطينية التي تُعبّر عن تلك العادات الدافئة التي تعيش بين الأجيال المتعاقبة وتترك أثرها داخل النفوس، والذى يُردّده الجميع (قمح وزعتر عمارة البيت)، فى إشارة إلى أن البيت المملوء بخير الأرض هو البيت العامر.
ومن أجل مقاومة سرقات الإسرائيليين للأكلات الفلسطينية ونسبها إلى أنفسهم قامت إحدى الشابات الفلسطينيات وتُدعى فداء أبوحمدية من مدينة الخليل القديمة بإعداد كتاب (المطبخ الشعبي الفلسطيني) باللغة الإيطالية وثّقت فيه الأكلات التراثية الفلسطينية عندما سافرت عام 2004 إلى إيطاليا لتعلم الطبخ.
إلا أن الحنين إلى الوطن دفعها للكتابة وإنشاء مدونة خاصة بها عام 2011 وبدأت تُسجل من خلالها الأكلات الفلسطينية، ليس طريقة إعدادها فقط، بل من ناحية مناطق طبخها والمناسبات التي تُقدّم فيها، حيث كتبت عن أكلات الأعياد والمواليد الجُدد والأعراس.
وقد نجحت مدونتها فى جذب الكثيرين من الإيطاليين لتتحول إلى مدونة أسبوعية فى إحدى الصحف الإيطالية، وتنشر فيها سلسلة مقالات بعنوان (الطعم والهوية)، ومن هذه المقالات عرفت «فداء» على نطاق واسع بين الإيطاليين، ومنهم أربعة باحثين حضروا معها إلى فلسطين وشاركوها فى جولة لتدوين وصفات الطعام فى مدن الضفة الغربية والقدس، وزار الفريق بيوت الفلسطينيين الذين أعدّوا لهم وصفات تراثية وكتبوا عنها وصوروها.
وفى عام 2016 قامت «فداء» بتوثيق هذه الجولة فى كتابها باللغة الإيطالية تحت عنوان (Pop Palestine cuisine)، وقد قسّمت هذا الكتاب إلى فصول تعرف بالأكلات حسب المدن الفلسطينية وطريقة إعدادها مع صور للطعام والنساء اللائى قمن بطهيه مع نصوص أدبية للطعام.
ومن أهم صفحات هذا الكتاب كان ما كتب عن طائفة السامرية، وهى أصغر طائفة فى العالم، وسجلوا عنهم طريقة إعداد الجبنة بمخثر نباتي لا حيواني، ومن غزة كانت وجبات الرمانية والسماقية، أما من أريحا فقد التقطوا صوراً وسجّلوا طريقة عمل حلوى «القطايف بالتمر»، ومن نابلس كانت الكنافة المشهورة.
وقد قامت «فداء» بالرد على سرقة الإسرائيليين للأكل الفلسطيني ونسبه إليهم أمام العالم، خاصة عندما شاهدت طبق المفتول يُقدّم على الخطوط الجوية البريطانية كوصفة إسرائيلية، وإلى جانبه صحن الحمص والتبولة والحلويات الشرقية. وتحدّثت فى الكثير من وسائل الإعلام الإيطالية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي عن تلك القضية.
وأشارت إلى اقتلاع الإسرائيليين أشجار الزيتون التي يبلغ عمرها مئات السنين، لأنها واحدة من مصادر الموروث الغذائي التاريخية لأبناء المنطقة، فمن خيرات أرض فلسطين أبدعت الأمهات فى صنع أكلات الحمص بزيت الزيتون والمقلوبة والمنسف والمفتول والمجدرة والفريكة المفلفلة وخبز البلانيت بالأعشاب والجبن والقدرة وورق الدوالي وخبز الطابون.
ومن المعروف أن الأكلات الفلسطينية جزء من طعام المنطقة العربية عموماً، وتلك الهوية مصدر إزعاج وخوف للعدو الإسرائيلي، مما يدفعه لمحاولة الاستيلاء على هذا الموروث كذباً وبهتاناً، فلم يكتفِ بتدمير المدن وقتل الأطفال والنساء واعتقال الشباب، بل اتجه أيضاً للتاريخ، إلا أن تلك الهوية الفريدة للطعام الفلسطيني بصفة خاصة، والعربي بصفة عامة، والتي يُعزّزها تنوع مكوناته، حيث تختلف من موسم إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، تقف أمامهم بالمرصاد، حيث لا تقتصر أهمية الطعام على دوره الغذائي فقط، بل يرتبط بالثقافة والعادات والتقاليد ومعنى العائلة والقبيلة والأبناء والأحفاد.
ومن أجمل الأمثلة التي يُردّدها الجميع تلك الكلمات التي سطرها الشاعر محمود درويش من سجنه عندما قال: أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، وكأن غياب القهوة قد أزعجه أكثر من السجن نفسه، فباتت القهوة العربية من ضمن تراثنا الذى سجّله التاريخ.