نبيل عمر
إنهم يشترون «الترماى» الإلكترونى!
بالطبع نصفق لبراعة أجهزة الأمن فى قضية منصة «أف بى سي»، لا نصفق للقبض على النصابين الذين أسسوا المنصة وتطبيقاتها، وسخروا تكنولوجيا متقدمة فى النصب على المواطنين، وإنما نقصد الأداء العلمى المتطور لرجال الأمن فى تفكيك أساليب المنصة التى استخدمت عشرات أجهزة الكمبيوتر وألفا ومائة وخمسين شريحة هاتف محمول، ووصلوا إليهم.. لكننا بالقطع سوف نطأطئ الرأس ونضرب كفا بكف متألمين: كيف يسقط آلاف المصريين فى فخ النصب بهذه السهولة؟، لا تنسوا أننا نتحدث عن ضحايا غير عاديين، فهم مهرة فى استخدام الفضاء الإلكترونى وبرامجه، ومتاح لهم قدر هائل من المعلومات على شبكة الإنترنت، وبالرغم من ذلك أسرعوا بكل إرادتهم إلى شباك الصيادين وهم مبتسمون منتظرون غنائم «على بابا»، فتلقفهم «الأربعون حرامي» وسطوا على كل ما كان معهم!
مؤكد أن المصريين ليسوا فقط هم الذين يسقطون فى شباك النصب الإلكتروني، فهو «نشاط دولي» شائع، لكن الأمر مختلف، وقد نشرت جريدة الجارديان البريطانية قبل شهور تحقيقا صحفيا قالت فيه إن أكثر من 800 ألف شخص فى أوروبا والولايات المتحدة، قد تعرضوا للاحتيال من متاجر مزيفة على الإنترنت، وأن الشبكة العنكبوتية عليها ما يقرب من 76 ألف موقع مزيف مثل «أف بى سي» الذى نصب على المصريين.
لكن ثمة فارقا هائلا بين النصب هناك والنصب هنا.. النصب الاستثمارى فى قارات العالم حالات استثنائية لا يمكن وصفها بالظاهرة إلا فى بطاقات الائتمان البنكية والتجارة فى البيتكوين ( العملة الرقمية التى يزيد سعرها على 84 ألف دولار، ولا يتداول منها فى العالم سوى 21 مليون بيتكوين فقط)، فالناس لا تدفع مدخراتها بهذه السهولة المفرطة وفى الغالب الضحايا من كبار السن، وقد صنعت السينما العالمية فيلما عن حالة من هذه الحالات «مربى النحل»، لعب بطولته نجم الأكشن الشهير «جيسون ستاثام» فى دور عميل متقاعد يصادق سيدة عجوزا دخلت على منصة إلكترونية، فسرقت كل أموال جمعية خيرية ترأسها، فانتحرت، فانتقم لها ودمر المؤسسة التى تمارس هذا النوع من النصب برعاية شخصية سياسية كبيرة.
لكن النصب الاستثمارى عندنا حالات متكررة، ظاهرة اجتماعية متأصلة، ربما كلنا يذكر أشهر عملية نصب استثمارى نعرفها جميعا باسم «الرجل الذى اشترى الترماي»، وبعضنا يتصورها خيالا، خاصة أن السينما المصرية توسعت فيها وحولت شراء الترام إلى شراء العتبة الخضرا بقسم البوليس والمطافئ، المبالغة تجعل الواقع حكاية هزلية..
لكن ضحية «الترماى» حقيقى، شحما ولحما، وهو حفظ الله سليمان، والواقعة حدثت فى عام 1948، حين اصطاده النصاب رمضان أبو زيد العبد وباع له الترام رقم 30، بمائتى جنيه، 80 جنيها نقدا، و120 جنيها بكمبيالات، وحين استنجد حفظ الله بالشرطة، قبضت على رمضان الذى حكم عليه بالحبس عامين ونصف العام، وعند خروجه من السجن أفردت له صحف القاهرة صفحاتها حوارات عن تفاصيل عملية الخداع والنصب.
تمر السنون، يتضاعف سكان مصر، تتكاثر المدارس وتحدث طفرة فى أعداد المتعلمين، يرتفع عدد الجامعات المصرية من ثلاث حكومية وخاصة إلى 92 جامعة، يتطور كوكب الأرض ويقفز مليون خطوة إلى الأمام، تعليم وصحة ومعلومات وفضائيات وموبايلات ذكية، عالم مفتوح بلا خفايا أو خبايا، وكله على عينك يا تاجر، ومع هذا لا يتوقف المصريون عن السقوط فى عمليات النصب الاستثماري، فى الأرض الزراعية وتربية المواشي، وتجارة الأجهزة الكهربائية والسلع التموينية، وشركات توظيف الأموال، ثم الأرباح الإلكترونية، وبعض هؤلاء المصريين متعلمون تعليما عاليا إلى حد درجة الدكتوراه، وبعضهم يشغلون وظائف مرموقة.
وإذا كانوا بسطاء..أليس لهم أولاد تعلموا؟، ألم يشاهدوا تليفزيونا أو برامج أو مسلسلات؟، ألم يسمعوا حكايات النصب من جيرانهم أو من أصدقائهم؟
كيف يصدق هؤلاء العاديون والبهوات أن ثمة استثمارا يمكن أن يكسب 10 أو 15% شهريا، أى ما بين 120 إلى 150% سنويا، خلاف مكسب صاحب المشروع والمصروفات وكافة التكاليف؟
حالة فريدة، الطمع هو أحد مفاتيحها، لكنه بالقطع ليس المفتاح الوحيد الأهم، صحيح أن الطمع حالة غريزية تصيب العقل بالعمي، والنفس بالرغبة الجامحة، فيصبح الطامع مثل حيوان تحكمه غريزة البقاء فقط، حين يكاد يموت من الجوع، فيقع بسهولة مفرطة فى شباك أى صياد، حتى لو كان صيادا محدود القدرات. لكن إذا كان أغلبهم حصلوا على قدر من العلم والمعلومات، وتدربت عقولهم على التفكير ولو بطريقة متوسطة، ويمكن لهذا القدر من التفكير أن يمثل عائقا أمام الطمع الأعمى، فكيف يسقطون بهذه السهولة؟
قد يكون الارتباك العقلى وغياب الرؤية وفقدان الثقة فى الأيام، وهى حالة ضبابية تخفى بعض تفاصيل المشهد.
مهما تفلسفنا وأدعينا الحكمة وتحدثنا مع أطباء نفسيين أو فسرها أساتذة علم الاجتماع، تظل الأسباب الصغيرة المباشرة مجهولة أو مدفونة فى قرار عميق بالنفس البشرية، يصعب الوصول إليها..
لكن قطعا هناك أسباب عامة تشى بأن البناء الثقافى والاقتصادى والاجتماعى به ضعف لم يعالج حتى الآن، والأخطر هو البناء الثقافى الذى هو بمثابة آلة التشغيل العقلية للأفراد والمجتمعات، الثقافة هى صناعة الوعي، الوعى الفردى والوعى العام، والوعى هو الفنارة، التى تنير الدروب والطرقات حتى يضبط صاحبها حركته على الاتجاه الصحيح، فلا يصدق أن الدولارات يمكن أن تلد لو وضعها ساحر فى سلة خاصة أعدها لذلك.
ويبدو أن الضحايا المصريين يعانون ضحالة ثقافية، حتى نسوا مثلا شائعا، قد يكون عمره من عمر مصر نفسها: (طمعَنْجى بنى له بيت فلسَنْجى سكن له فيه).