أولوية لـ “الأيديولوجيا” والسلاح على حساب السياحة!
كمال جاب الله
كاتب صحفي ومحاضر جامعي
بالرغم من أوجه الشبه بين نظامي الحكم الشيوعيين بالدولتين، فرق شاسع بين ما شهدته -بنفسي- من انفتاح نسبي على العالم الخارجي، خلال زيارتي الأخيرة لكوبا (يناير 2025)، وبين ما تتناقله الأنباء عن حالة التعتيم المرعبة بكوريا الشمالية.
في صيف عام 1984، وفي أثناء مزاولتي للمهنة، وإقامتي بالكويت، قمت بزيارتين سياحيتين لدولتين أوروبيتين، كانتا محكومتين بنظامين شيوعيين شموليين حتى أواخر عقد الثمانينيات، هما بلغاريا ورومانيا. وقتها رأيت -على الطبيعة- كيف يجري استقبال السائحين هناك، وتوفير أقصى درجات الإعاشة والترفيه بأسعار زهيدة.
أيضًا، زرت الصين -التي يحكمها الحزب الشيوعي- أكثر من 10 مرات، على مدار ثلاثة عقود، وتحديدًا منذ صيف عام 1997، وشهدت -هناك- حجم التغييرات الملفتة والسريعة والمنفتحة تمامًا في حياة الصينيين، اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا.
في قاعات الوصول والمغادرة بمطار هافانا الدولي (خوسيه مارتيه)، يصعب على المرء أن يجد لنفسه موطئ قدم من شدة ازدحام الزائرين والمسافرين الأجانب، والإقبال على مقصد سياحي فريد، يحظى بالمناخ المعتدل وبالمعالم الحضارية والطبيعة والشواطئ البحرية ذات الرمال الدافئة والمشروبات والأطعمة اللذيذة.
الأسبوع الماضي، أشرت إلى حالة الرواج والانتعاش السياحي غير المسبوقة التي تشهدها اليابان وكوريا الجنوبية، بنحو 36.8 مليون للأولى و16.5 مليون سائح للثانية، وبعائدات تصل إلى 51.8 مليار و16.5 مليار دولار لكل منهما على التوالي وفقًا لتقديرات عام 2024، وتسعى طوكيو وسول -بقوة- لمضاعفة العائدات.
كثيرًا ما راودتني الرغبة في زيارة الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، وقد سعيت -ذات مرة- فيما أكملت 4 زيارات ميدانية مثمرة لكوريا الجنوبية، وبتحقيق حلم زيارة الشطر الكوري الشمالي، يمكنني أن أزعم -وقتها- بأني زرت العديد من دول جنوب وشمال شرق آسيا، وصولًا لأقصى الشرق في أستراليا ونيوزيلندا.
زيارة كوريا الشمالية بالنسبة لمراسل صحفي كانت -ولا تزال- إحدى المستحيلات، وقد أتيحت لي الفرصة -أكثر من مرة- لعبور النقطة الحدودية بين الكوريتين، وتحديدًا في غرفة مكتب مقسمة بين الأخوين اللدودين بقرية بانمونجوم، حيث يجري المرور بمنطقة مليئة بالألغام وشديدة التحصين بالأسوار الكهربائية والشائكة، بالإضافة لانتشار مليوني جندي أيديهم فوق الزناد على مدار الساعة.
في أثناء مهمتي وإقامتي مراسلًا للأهرام في العاصمة اليابانية (2001-2005)، تلقيت عرضًا من أحد الصحفيين الكوريين المقيمين بطوكيو -تعود جذوره لكوريا الشمالية- بتوفير فرصة “سرية” لزيارة الشطر الشمالي، مقابل دفع 5 آلاف دولار!
ترتيبات الزيارة لكوريا الشمالية كانت -وقتها- من المفروض أن تجري بطريقة مثيرة ومريبة ومحفوفة بالمخاطر، لذلك فقد توقفت عن الاستمرار في إتمامها.
في الأسبوع الماضي، طالعت تقريرًا يتضمن معلومات في غاية الإثارة والتشويق، كتبه جين ماكنزي لهيئة الإذاعة والتليفزيون البريطانية، بي بي سي، بعنوان: سائحون بريطانيون سمح لهم بالسفر مجددًا إلى كوريا الشمالية.. فماذا رأوا هناك؟
قبل عرض أهم ما جاء في تقرير بي بي سي، أشير إلى نبأ عاجل جرى بثه يوم الخميس الماضي، جاء فيه أن كوريا الشمالية علقت -فجأة- دخول السائحين الأجانب، بعد فتح منطقة راسون الاقتصادية الخاصة شمال شرق البلاد، لأول مرة منذ 5 سنوات. علمًا بأنه لم يسمح إلا للمواطنين الروس بجولات سياحية محدودة.
بسبب هذا التعليق المفاجئ لدخول السائحين الأجانب، لا يعرف حتى كتابة هذه السطور ما هو مصير حجوزات المسافرين للمشاركة في الماراثون الدولي المقرر إقامته في بيونغ يانغ الشهر المقبل، كعلامة على فتح الأبواب أمام السياح الأجانب.
شركة “كوريو تورز” عرضت باقتين للماراثون، تغادر كل منهما في يومي 3 أبريل و5 أبريل المقبلين. وتشمل الرحلات، التي تستغرق 6 أيام، جولات في المعالم الرئيسية بالعاصمة الكورية الشمالية، وتبلغ تكلفتها 2302 دولار للفرد الواحد.
يشمل برنامج الرحلة زيارة حديقة مائية وحديقة نافورة ومطعم تقليدي شهير، بالإضافة إلى زيارة شوارع “هواسونج” وصوبة زراعية بمقاطعة “كانجدونج”، شرق العاصمة؛ وكلاهما تم تطويره مؤخرًا في عهد الزعيم كيم جونج-أون.
قبل أسابيع، تفقد الزعيم الكوري الشمالي منطقة سياحية جديدة تقع على طول الساحل الشرقي للبلاد، ومن المقرر افتتاحها أمام الزائرين الأجانب في شهر يونيو المقبل، لتعزيز السياحة، ووصف كيم المنطقة بأنها مذهلة وجميلة ورائعة، معربًا عن رضاه الكبير، وقال إن مرافق الخدمة التي تم بناؤها على مستوى عالٍ، يمكن الاستفادة منها في المناسبات الرسمية الخارجية والسياسية والثقافية المهمة.
كوريا الشمالية لجأت إلى السياحة كوسيلة لكسب العملة الأجنبية، حيث لا تخضع صناعة السياحة فيها للعقوبات الدولية، ومن المتوقع على نطاق واسع أن تحاول بيونغ يانغ جذب السياح الروس بمجرد افتتاح منطقة “كالما” السياحية في يونيو.
معلوم أن الاقتصاد الكوري الشمالي يعاني بشدة منذ تطبيق العقوبات الدولية عليها نتيجة لتطوير برامجها النووية والصاروخية، وفي عام 2023، بلغ حجم تجارتها الخارجية نحو 2.77 مليار دولار فقط، مقابل 1.26 تريليون بالشطر الجنوبي.
تسخر كوريا الشمالية معظم مواردها الاقتصادية والطبيعية والبشرية لخدمة الجيش، ويتردد أنها تستطيع حشد نحو 6 ملايين جندي، أي ما يقرب من ربع عدد سكانها، في ظل بقاء قواتها المسلحة في حالة تأهب مستمر، فضلًا عن توجيه الصناعة نحو توفير الاحتياجات العسكرية من الأسلحة والذخيرة، كأولوية قصوى.
هنا أعود إلى عرض أهم ما جاء في تقرير بي بي سي، ولعل نشره بطريقة مشوقة ومثيرة يكون هو السبب الأول في تعليق دخول السائحين الأجانب لكوريا الشمالية.
موجز تقرير بي بي سي يتضمن نحو 1230 كلمة، بدأ بمقدمة نصها: “لا تهن الزعماء، ولا تهن الأيديولوجيا، ولا تنتقد، وانتبه للقواعد التي يقرأها المرشدون على الزائرين الغربيين، وهم يستعدون لعبور الحدود إلى كوريا الشمالية، التي يمكن وصفها -حسب تقرير بي بي سي- بأنها الدولة الأكثر سرية وقمعًا في العالم”.
هذه المقدمة الموجزة للتقرير أعتقد أنها تكفي لتصور باقي ما تضمنه من تفاصيل، كشفها سائحون معظمهم من مدوني الفيديو ومدمني السفر، إلى جانب المتحمسين لزيارة الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية. وهي الدولة التي لا توجد فيها تغطية لشبكات الهاتف المحمول ولا خدمة إنترنت ولا ماكينات صرف آلي، وتتطلع لتعزيز صناعة السياحة بهدف جذب المزيد من النقد الأجنبي في مواجهة العقوبات!