وجهة نظر :
أصل القصة فى المساعدات الأمريكية لمصر ..
السيد هانى ..
لا يجب أن نغفل عامل “التوقيت” .. عندما نتحدث عن بدء تقديم الولايات المتحدة الأمريكية مساعدات مالية وعسكرية إلى مصر .. التى وصلت فى بعض الأوقات إلى أن كانت مصر هى ثانى دولة فى العالم بعد إسرائيل؛ من حيث حجم المساعدات المالية والعسكرية التى تتلقاها من الولايات المتحدة ..!
أصل القصة هى أنه عندما قام الرئيس الراحل أنور السادات بزيارة القدس .. ثم بعد ذلك التوقيع على اتفاقية “كامب ديفيد” عام ١٩٧٨ .. ثم التوقيع على إتفاقية السلام مع إسرائيل عام ١٩٧٩ .. قوبل بحرب شعواء من جبهة الرفض (سوريا والعراق وليبيا) ومن ورائهم جميع الدول العربية .. باستثناء السودان وسلطنة عمان ..
الحرب الشعواء على مصر تمت على عدة أصعدة:
• الصعيد السياسى : تمثل فى نقل مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس .. ومحاولات مستميتة لتجميد عضوية مصر فى عدد من المنظمات الدولية : كحركة عدم الإنحياز ؛ ومنظمة الوحدة الأفريقية ؛ ومنظمة المؤتمر الإسلامى .. وغيرهم ..
• هذه المحاولات المستميتة من الدول العربية لتجميد عضوية مصر .. أو بالأحرى شطب عضوية مصر فى هذه المنظمات .. أدت لاشتعال حروب ضارية فى مؤتمرات هذه المنظمات بين الوفود العربية والوفد المصرى الذى كان يقوده .. الدكتور عصمت عبدالمجيد ؛ او الدكتور بطرس غالى (رحمهما الله) ومعهما دائما السفير عمرو موسى الذى كان فى تلك الفترة مديرا لإدارة الهيئات والمؤتمرات الدولية بوزارة الخارجية ..
• هذه المواجهات .. التى جرت على مدى عشر سنوات تقريبا بين الوفود العربية والوفد المصرى فى المؤتمرات الدولية .. تناولها السيد عمرو بالتفصيل فى الجزء الأول من مذكراته ” كتابيه” التى صدرت تحت عنوان “النشأة وسنوات الدبلوماسية” ..
• وعندما أصف هذه المواجهات ب “الحروب الضارية” .. الدبلوماسية طبعا .. فأنا لا أبالغ فى القول .. لأنها كثيرا ما تخللتها “تلاسنات عنيفة” غير مألوفة فى الأوساط الدبلوماسية ..
• منها ما جرى مثلا فى أحد المؤتمرات على مستوى وزراء الخارجية الذى عقد بالكويت .. والذى شن فيه وزير الخارجية السورى فاروق الشرع هجوما شديدا على مصر بسبب اتفاقية السلام التى وقعتها مع إسرائيل .. حتى وصل إلى القول عن مصر “أولاد الكلب” .. فعاجله السيد عمرو موسى مقاطعا بالقول له: “أنت ابن ٦٠ كلب” ..
مابعد المعركة
كان يرأس المؤتمر الشيخ صباح الأحمد الصباح نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية الكويت فى ذلك الوقت (رحمه الله) .. فخشى ان يتطور الموقف إلى اشتباك بالأيدى بين عمرو موسى وفاروق الشرع .. لذلك نهض الشيخ صباح من مكانه فى رئاسة الجلسة وتوجه مباشرة إلى السيد عمرو موسى وأمسك به يحاول تهدئته ..
كان رئيس الوفد المصرى فى هذا المؤتمر الدكتور عصمت عبد المجيد .. لكنه كان خارج قاعة المؤتمر لحظة اشتباك عمرو موسى وفاروق الشرع .. وكان السيد عمرو موسى هو الذى يجلس فى مقعد مصر بهذه الجلسة .. فانطلق يدافع عن مصر ويطلق سهامه على كل من يهاجمها ..
• كان السيد عمرو موسى فى ذلك الوقت يشغل منصب “مدير إدارة الهيئات والمؤتمرات الدولية” بوزارة الخارجية .. بعد انتهاء الجلسة ذهب السيد عمرو موسى إلى الدكتور عصمت عبد المجيد يبلغه بما جرى بينه وبين فاروق الشرع .. فعلق الدكتور عصمت على ذلك بالقول “يستاهلوا” ..!
* * *
هكذا على الصعيد السياسى .. وصلت إلى هذه الدرجة الحرب التى شنتها دول الرفض .. على مصر .. لكى لا تقتصر “العزلة السياسية” التى فرضوها على مصر على المحيط العربى .. بل تمتد إلى الساحة الدولية كلها ..!
* * *
كذلك كان هناك أيضا الصعيد الإقتصادى .. حيث قامت دول الرفض الثلاثة بالضغط على دول الخليج لمنع تقديم أية مساعدات مالية لمصر من أجل “خنقها إقتصاديا” .. على أمل أن يجوع الشعب المصرى .. فيثور على الرئيس السادات ويسقطه ..!
وصل الأمر إلى درجة أن قامت بعض الدول الخليجية .. بإنهاء عقود العمالة المصرية بها وإعادتهم إلى مصر .. واستبدالهم بالعمالة الآسيوية .. لكى لا يأتى شيئا من أموال الخليج إلى مصر .. فتجوع .. وتذهب اموال الخليج إلى الهند وباكستان وبنجلاديش والفلبين .. القصة طويلة..!!
إهانة العمالة في الخليج
نوعان فقط من العمالة المصرية لم تستطع دول الخليج الإستغناء عنهما .. هما : المدرسون والصحفيون .. بسبب اللغة العربية ؛ التى يحتاجها سكان الخليج ..
• ولإحكام الخناق على مصر .. ألغت بعض دول الخليج التعاقدات الرسمية مع الحكومة المصرية بالنسبة للمدرسين .. أو قللتها .. وفتحت الباب للتعاقدات الفردية .. فذهب بعض المدرسين المصريين فرادى إلى دول الخليج يبحثون عن فرص للعمل .. لكنهم تعرضوا لظروف صعبة بسبب التمييز ضدهم ..
• من صور التمييز ضد المدرسين المصريين فى دول الخليج على سبيل المثال .. أن الحاصل على شهادة البكالوريوس أو الليسانس منهم .. كان يفضل عليه فى الأجر وفى التعاقد، المواطن السودانى الحاصل على شهادة “جلس ولم يتمكن” .. وهى شهادة تعطيها السودان للراسب فى امتحان الثانوية العامة ..!
• من صور التمييز ضد المدرسين المصريين أيضا .. ماحدث فى إحدى الدول الخليجية .. عندما قررت حكومة هذه الدولة زيادة مرتبات المدرسين من أبنائها .. ولم تشمل الزيادة المدرسين المصريين .. فذهب المدرسون المصريون إلى وزير التعليم فى هذه الدولة الخليجية يشكون .. فقال لهم هذه العبارة : “عندما يقرر صاحب البيت زيادة المصروف لأولاده .. فهذا لا يعنى أن يزيد أجر الخادم” .. هذه العبارة سمعتها من أحد المدرسين المصريين الذين التقوا وزير التعليم فى هذه الدولة الخليجية ..
• هكذا جرت محاولات خنق مصر إقتصاديا .. لتجويع شعبها .. بسبب توقيع إتفاقية السلام مع إسرائيل ..!!
• بالنسبة للصحفيين .. أستطيع القول إن معظم الصحف الخليجية أسسها صحفيون مصريون .. وصدرت أعدادها الأولى بأقلام الصحفيين المصريين .. لكن بعد توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل .. بدأ على نطاق واسع .. استبدال الصحفيين المصريين بصحفيين من سوريا ولبنان .. وبدأت حملات التطاول على مصر سواء بالمقالات أو الرسوم الكاريكاتورية .. التى تجاوزت كل حدود الأدب ..
• هنا لابد ان أذكر للأمانة .. أن تطاول بعض الصحفيين والرسامين السوريين واللبنانيين على مصر فى الصحف الخليجية .. بلغ حدا أغضب بعض حكام الخليج أنفسهم .. مثل الشيخ زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة “رحمه الله” ..
طرد صحفي بأمر الشيخ زايد
• فعندما استشهد الرئيس السادات “رحمه الله” .. كتب أحد الصحفيين السوريين .. وكان يعمل مديرا لتحرير إحدى الصحف الإماراتية .. “مانشيت” الصفحة الأولى بالصحيفة يقول : ” اغتيال الخائن” .. فأمر الشيخ زايد بإنهاء عمل هذا الصحفى السورى فورا .. فى نفس اليوم .. وترحيله من دولة الإمارات العربية..!!
• قبل أن أنتقل إلى الصعيد الثالث فى الحرب على مصر من أشقائها العرب بسبب توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل .. لابد أن أؤكد على أن الهدف مما ذكرته، هو شرح الظروف الإقليمية التى أحاطت بمصر فى “توقيت” بدء تقديم المساعدات الأمريكية لها .. ليس الهدف أبدا من ذلك هو فتح الجراح القديمة .. أو تعكير صفو المياة الجارية حاليا بين مصر وأشقائها الخليجيين .. الذين يحبون مصر .. ومصر تحبهم ..
• اما بالنسبة للصحفيين السوريين واللبنانيين الذين هاجموا مصر بالمقالات والرسوم الكاريكاتورية .. فهم لم يفعلوا ذلك كراهية فى مصر .. وإنما كانوا يكتبون ويرسمون كل ما كان يرضى رئيسهم حافظ الأسد .. طمعا فى رضاه عنهم .. او تقريبهم إليه ..!
• الرئيس العراقى صدام حسين .. كان لديه أموالا أكثر من أموال حافظ الأسد .. فاختار أن يفتح جبهة للحرب على مصر من قلب أوربا .. من باريس .. وجند لهذه الجبهة جيشا من الكتاب والصحفيين العرب والمصريين .. الذين جذبتهم أضواء باريس وحياة الحرية الإجتماعية والسياسية فيها .. وجمال المرأة الفرنسية .. ذهبوا إلى باريس .. واستقرت لهم الإقامة فيها .. بمرتبات مالية مجزية جدا .. كان يغدق عليهم بها الرئيس العراقى صدام حسين .. فشنوا على مصر حملات ضارية .. والحرب عندما تأتى من الكتاب والمثقفين والرسامين .. تكون أقوى تأثيرا فى نفوس من يقرأ مقالاتهم المسمومة ..!!
• لم يكتف رؤساء دول الرفض (حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافى) بالهجوم على مصر من الخارج .. وإنما استطاعوا تجنيد عملاء لهم داخل مصر .. بمرتبات مجزية جدا .. من أجل تخوين أنور السادات .. وتكريس “أكذوبة بلهاء” تقول إن حرب أكتوبر ١٩٧٣ المجيدة .. كانت تمثيلية متفق عليها بين السادات والأمريكان ..!!
الجوائز لمن يشتم مصر
• أحيانا كانت تصرف هذه الأموال للكتاب المصريين .. غير المقتنعين بحرب أكتوبر .. فى صورة جوائز مالية ضخمة .. لأحسن عمل أدبى .. أو أحسن مقال .. وطبعا لا هو أحسن عمل أدبى .. ولا هو أحسن مقال .. إنما هى “رشوة” تقدم .. لكل من فقد ضميره .. وخان دماء الأبطال الذين غرسوا العلم المصرى فوق رمل سيناء وصنعوا انتصار أكتوبر العظيم ..
• أعود إلى الكتاب المصريين الذين حاربوا مصر من جبهة صدام حسين فى باريس .. فبعد غزو صدام حسين للكويت .. وانكسار جيشه .. ووقوع العراق تحت طائلة العقوبات الدولية .. لم يعد لدى صدام حسين ما يرسله لهم من أموال .. توقفت المرتبات .. فجاعوا .. وتلطموا .. ولم يجدوا من يقدم لهم فى باريس لقمة خبز ..!!
• كان وزير الثقافة فى ذلك الوقت فاروق حسنى .. فاقترح على الرئيس حسنى مبارك “رحمه الله” السماح لهم بالعودة إلى مصر .. وتوفير فرص عمل لهم فى الصحف المصرية .. وعفا الله عما سلف .. وقد وافق الرئيس مبارك على هذا الإقتراح .. لأسباب إنسانية بالطبع .. وخشية أن تلتقطهم أجهزة مخابرات أجنبية وتقوم بتجنيدهم .. تحت ضغط الحاجة إلى الطعام .. بعد ان انقطعت عنهم أموال صدام حسين .. لقد عادوا بالفعل .. وتم تعيينهم فى الصحف المصرية : الأهرام ،والأخبار، والجمهورية .. وكان لى دورا متواضعا فى تعيين أحدهم بالجمهورية..!
الأعمال الإرهابية
أما الصعيد الثالث فى الحرب التى شنتها دول الرفض على مصر .. فهو الصعيد الأمنى .. حيث قامت هذه الدول بتمويل عدد من الأعمال الإرهابية ضد مصر .. تمثلت فى خطف الطائرات المصرية؛ واغتيال الشهيد الكاتب العظيم نقيب الصحفيين يوسف السباعى فى قبرص .. على أيدى مجموعة من الفلسطينين .. بتخطيط وإشراف قيادة فلسطينية .. كانت تقيم ببغداد فى ضيافة صدام حسين .. وذلك ضمن خطة لاغتيال كل من رافق الرئيس أنور السادات فى زيارته إلى القدس يوم ١٩ نوفمبر عام ١٩٧٧ ..
• دارت الأيام .. ورأى صدام حسين أن من مصلحة العراق لتخفيف الضغط الغربى عليه فى بداية عام ٢٠٠٣ .. قبل الغزو الأمريكى للعراق بأسابيع قليلة فقط .. التخلص من هذه القيادة الفلسطينية الكبيرة التى استضافتها العراق لقرابة ٢٠ عاما .. فى مسكن جميل مؤسس بأفخم انواع الأثاث، وزوجة عراقية حسناء .. فأرسل صدام حسين إليه ثلاثة من ضباط المخابرات العراقية .. أطلقوا النار عليه من مسدس كاتم للصوت .. أمام زوجته .. فى قلب مسكنه .. قالوا له قبل إطلاق النار عليه : “لقد انتهى دورك” ..!!
• هذه التفاصيل .. عرفتها .. لأننى كنت موجودا فى بغداد ذلك الوقت.. فى مهمة صحفية امتدت ٢٣ يوما .. انتهت قبل الغزو الأمريكى للعراق سنة ٢٠٠٣ بساعات قليلة .. ولخروجى من بغداد قصة طويلة خارج سياق هذا المقال ..!
* * *
ماسبق هو محاولة لشرح الظروف التى أحاطت بمصر على الصعيدين العربى والدولى .. فى “توقيت” التفاهمات الثنائية التى جرت بين الرئيسين أنور السادات وجيمى كارتر “رحمهما الله” ، وتم فيها الإتفاق الشفوى على إرسال المساعدات المالية والعسكرية الأمريكية إلى مصر ..
• المساعدات المالية .. لتعويض مصر عن الأضرار التى لحقت باقتصادها .. نتيجة المقاطعة العربية لمصر ..
• المساعدات العسكرية .. لمساعدة مصر على المضى فى سياسة “تنويع” مصادر السلاح ؛ التى أعلنها الرئيس أنور السادات بعد معاناته الشديدة فى الحصول على السلاح من الإتحاد السوفييتى .. رأت الولايات المتحدة أن هذه “فرصة ذهبية” أمامها .. لتحويل اعتماد الجيش المصرى على السلاح السوفييتى .. إلى السلاح الأمريكى .. لأن فى ذلك مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة .. تبعث برسالة إلى الكرملين فى موسكو .. تقول إن الإتحاد السوفييتى خسر أهم حلفائه فى الشرق الأوسط .. وهى مصر .. !
• هذه هى أصل القصة فى المساعدات الأمريكية لمصر .. والظروف التى أحاطت بها ..
————————————
السيد هانى ..
نائب رئيس تحرير جريدة الجمهورية ..
الكاتب المتخصص فى الشئون الدولية ..
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية ..