استراتيجية روسية لتطوير سلاحها البحري حتى عام 2050
أشار بوتين إلى أنه سيتم توفير نحو 100 مليار دولار في الأعوام الـ10 المقبلة لبناء السفن الجديدة
سامي عمارة
كاتب وصحافي
ملخص
يعزو المراقبون في روسيا وخارجها الأسباب الرئيسة لما طرحه الرئيس بوتين حول استراتيجية تطوير البحرية الروسية إلى عوامل جيوسياسية وتكنولوجية وعسكرية عدة، منها تعزيز الأمن القومي وقوات الردع الاستراتيجي لحماية أمن روسيا وحلفائها إلى جانب الحفاظ على التوازن العالمي.
تأكيداً لما سبق وقاله هنري كيسنجر عميد الدبلوماسية الأميركية السابق حول “إيمان بوتين (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) الصوفي بالتاريخ”، ولما أشار إليه الرئيس بوتين في احتفالات روسيا بالذكرى الـ350 لميلاد بطرس الأكبر، مؤسس الإمبراطورية الروسية، حول “أنه يحذو حذو هذا الإمبراطور العظيم ويقتفي خطاه”، ولما نقله الأمير ألكسندر ميخائيلوفيتش، صهر الإمبراطور الروسي الإسكندر الثالث في حديثه إلى وزرائه “ليس لدينا في العالم كله سوى حليفين مخلصين وهما الجيش والأسطول”،
عاد بوتين ليعلن عن خطته حول استراتيجية تطوير الأسطول البحري الروسي، التي تبدو كمزيج بين الضرورات الأمنية والطموحات الجيوسياسية. وذلك فضلاً عن تعزيز هذه الخطة باستثمارات ضخمة في مجال التكنولوجيا والبنية التحتية، كذلك فإنها لا تستهدف تعزيز الردع النووي وحسب، بل وأيضاً تأكيد دور روسيا كفاعل رئيس في الساحة الدولية.
رفض القطب الواحد
وقد جاءت هذه الخطوة إلحاقاً بما سبق وأعلنه بوتين حول دعم مؤسسات الصناعات العسكرية، وإمداد الجيش الروسي بأحدث الأسلحة والمعدات، فضلاً عما تناوله لأهم القضايا الاستراتيجية التي سبق وتوقف عندها في خطابه الشهير في مؤتمر الأمن الأوروبي في فبراير (شباط) 2007 الذي أعلن فيه رفضه عالم القطب الواحد، وضرورة بناء عالم متعدد الأقطاب، وذلك إلى جانب ما أعلنه حول استراتيجيته لتطوير منطقة القطب الشمالي، وتقدم بلاده إلى الأمم المتحدة بمذكرة تؤكد فيها سيادتها على منطقة من الجرف القاري للقطب الشمالي تبين أنها غنية بالنفط والغاز الطبيعي. وكانت روسيا سبق وتقدمت بطلب عام 2001 إلى الأمم المتحدة للاعتراف بسيادتها على ما يزيد على مليون كيلومتر مربع من القطب الشمالي.
استراتيجية تطوير البحرية الروسية
بعد لقائه الثالث مع ستيف ويتكوف المبعوث الشخصي للرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي أوكل إليه كل الملفات المهمة على خريطة اهتمامات أميركا في الساحة الدولية بداية من روسيا، وأوكرانيا وإيران، حتى الأوضاع في الشرق الأوسط، والعلاقة بين إسرائيل وحركة “حماس”، انتقل بوتين إلى مبني “الأميرالية”، مقر القيادة العامة للبحرية الروسية، في سانت بطرسبورغ العاصمة البحرية التاريخية لروسيا، ليعقد اجتماعه الذي ناقش فيه استراتيجية تطوير البحرية الروسية للفترة حتى عام 2050.
وننقل عن “الصحيفة الروسية” الصحيفة الرسمية للدولة، ما استهل به القائد الأعلى للقوات الروسية المسلحة حديثه “المفتوح” في حضور ممثلي عدد من كبريات الصحف المحلية والعالمية، إلى المسؤولين عن السياسة البحرية الروسية والتخطيط والتنسيق وبناء السفن، وأشار الرئيس بوتين إلى أنه وخلال الأعوام الأخيرة، نفذ برنامج واسع النطاق لتحديث البحرية،
وبناء السفن الروسية سواء في كالينينغراد، المطلة على بحر البلطيق غرباً، وحتى فلاديفوستوك في الشرق الأقصى على ضفاف المحيط الهادئ، بمختلف أنواعها السطحية وحاملات الصواريخ البحرية الجديدة، بما في ذلك أحدث المشاريع Borey-A وYasen-M الخاصة ببناء الغواصات النووية،
كذلك كشف بوتين عن بناء 49 سفينة من فئات مختلفة، إلى جانب ما نفذ منذ عام 2020، حول ضم أربع غواصات استراتيجية إلى مشروع Borey-A، وأربع غواصات متعددة الأغراض من مشروع Yasen-M إلى البحرية الروسية. وأوضح بوتين “أن ديناميات المتغيرات الدولية، وظهور التحديات والتهديدات الجديدة، بما في ذلك في الاتجاهات البحرية، وأخيراً، الثورة التكنولوجية والرقمية السريعة والروبوتات وإدخال الأنظمة غير المأهولة على نطاق واسع تتطلب تشكيل صورة جديدة للبحرية”، وذلك ما يستلزم تحديد الخصائص الواعدة والتكوين المتوازن للأسطول، لتقييم إمكانات تصميم وبناء السفن الجديدة وسفن الدعم البحري العسكري.
ومضى الرئيس الروسي في الكشف عما حققته بلاده من إنجازات على صعيد الصناعات العسكرية، وليقول أيضاً إن حصة المعدات الحديثة في القوات النووية الاستراتيجية البحرية الروسية وصلت إلى نسبة 100 في المئة، في وقت أشار إلى أنه سيتم توفير 8.4 تريليون روبل (أي زهاء 100 مليار دولار)، في الأعوام الـ10 المقبلة، لبناء السفن البحرية الجديدة.
أضاف بوتين “من المهم تطوير مكونات البحرية بشكل منهجي ومستمر”، مما يعني به “مجموعات الغواصات وسفن السطح والطيران البحري والصواريخ الساحلية وقوات المدفعية، فضلاً عن وسائل الدعم الأخرى”، كذلك أشار إلى ما تدرجه روسيا من أولويات تتمثل في “تعزيز الأسطول المحلي في الجزء الرئيس من القوات النووية الاستراتيجية، التي تعد أهم ضمانة لأمن روسيا، والحفاظ على التوازن العالمي”، وأضاف كذلك ضرورة أن تدمج الطائرات المسيرة في مجمع واحد، وهو ما قد يعني تأسيس فرع جديد للقوات المسلحة على غرار “الدفاع الجوي” و”القوات الاستراتيجية”.
وكان الرئيس الروسي قد أعلن في نهاية شهر مارس (آذار) الماضي إطلاق الغواصة المتعددة الأغراض “بيرم” (اسم مدينة قريبة من جبال الأورال)، التي أصبحت أول غواصة مسلحة بصواريخ “كروز – تسيركون” الفرط صوتية، وأشار إلى أن “هذا بالفعل سلاح يمكنه أداء مهام استراتيجية”، ولفت إلى أن أساس برامج تدريب البحارة العسكريين يجب أن يكون استراتيجية وتكتيكات حديثة للحرب، مع ضرورة الاستناد إلى ما تراكم من خبرات وإنجازات عسكرية، حققتها القوات الروسية في أوكرانيا، خلال “العملية العسكرية الروسية الخاصة” هناك.
القواعد البحرية
وتقول المصادر الروسية إن الاجتماع تناول أيضاً كثيراً من القضايا المهمة المتعلقة بتطوير الأسطول، والضمان الاجتماعي للبحارة وأفراد أسرهم، فضلاً عن تجديد القواعد البحرية والبنية التحتية للمعسكرات العسكرية، وهو أمر مهم، بشكل خاص، لروسيا في القطب الشمالي. وأضاف بوتين إلى هذه المهام، ما قاله حول أن البحرية الروسية أدت وتؤدي دوراً مهماً في ضمان دفاع روسيا وأمنها، وفي حماية مصالحها الوطنية في المحيط العالمي، كذلك أكد أن السفن الروسية يجب أن تكون اليوم وفي المستقبل قادرة على حل مجموعة كاملة من المهام الموكلة إليها بشكل فعال.
ومن اللافت أن “الصحيفة الروسية” الناطقة الرسمية باسم الدولة الروسية أنهت ما نقلته عن ذلك الاجتماع البالغ الأهمية، بما سجلته في ختام تقريرها عن ذلك الاجتماع، وما نوقش فيه من موضوعات، بجملة مفادها “بقية ما تناوله الاجتماع يظل من الأسرار العسكرية”.
الكتاب الأبيض للاتحاد الأوروبي
وكان بوتين عقد اجتماعه الذي ناقش فيه “استراتيجية تطوير البحرية الروسية”، في أعقاب اجتماع الاتحاد الأوروبي الذي عقد في مارس الماضي، بمشاركة وزراء دفاع بلدان الاتحاد، لبحث مخاوف البلدان أعضاء الاتحاد الأوروبي وما يطرحونه من أفكار لمواجهة روسيا التي يقولون إنها تستعد لشن “عدوانها” ضد بلدان هذا التحالف العسكري. وقد تجاهل وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث حضور الاجتماع، مكتفياً بالمشاركة فيه عبر البث المباشر، وكان الاجتماع حدد لذلك “العدوان الروسي المحتمل” عام 2030 موعداً افتراضياً.
وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أصدرت، بالتعاون مع مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الدفاع، أندريوس كوبيليوس، مع وزراء دفاع بلدان الاتحاد الأوروبي ما يسمى “الكتاب الأبيض” الذي بحث تبني استراتيجية دفاعية موحدة قدمتها المفوضية الأوروبية بهدف تنسيق جهود الدفاع بين دول الاتحاد الأوروبي وتعزير قدراتها التسليحية لمواجهة “أي تهديدات مستقبلية”،
كذلك رصد الاجتماع مبلغ 800 مليار يورو (نحو 908672 مليار دولار) “لتلبية حاجات بلدان الاتحاد من استعدادات عسكرية، ولتقديم المساعدة إلى أوكرانيا بما في ذلك توفير 1.5 مليون قذيفة مدفعية، وأنظمة دفاع جوي، ومواصلة تدريب القوات الأوكرانية، لمواجهة العدوان من جانب روسيا”، بحسب ما أشارت قيادات هذا الاتحاد.
ومن اللافت، في هذا الصدد، أن الاجتماع الذي عقده بوتين مع عدد من كبار معاونيه والمسؤولين عن تطوير الأسطول، في تاريخ لاحق بعد لقاء وزراء دفاع بلدان الاتحاد الأوروبي، يبدو وحسب مراقبين كثر، وكأنما جاء رداً على ما جاء في ذلك اللقاء، وما اتخذه من قرارات، غير أن الواقع يقول إن بوتين، وكما أشرنا، سبق وحدد مبكراً ومنذ خطابه الشهير الذي ألقاه في فبراير2007 في مؤتمر الأمن الأوروبي، استراتيجيته لمواجهة المتغيرات الدولية ومواجهة عالم القطب الواحد، إلى جانب توسع “الناتو” والحد من محاولاته لنشر قواته على مقربة مباشرة من حدوده الجنوبية، تمهيداً لعودة روسيا إلى صدارة الساحة الدولية، واستعادتها مواقعها التي تستحق، على خريطة السياسة العالمية.
ومن هنا كان ما اتخذه من قرارات حول تغيير العقيدة النووية وتطوير منطقة القطب المتجمد الشمالي، وغير ذلك من القضايا الاستراتيجية، وهو ما سبق ما تناولته “اندبندنت عربية” في تقاريرها السابقة من موسكو.
ماذا وراء استراتيجية تطوير البحرية الروسية؟
يعزو المراقبون في روسيا وخارجها الأسباب الرئيسة لما طرحه الرئيس بوتين حول استراتيجية تطوير البحرية الروسية إلى عوامل جيوسياسية وتكنولوجية وعسكرية عدة، منها تعزيز الأمن القومي وقوات الردع الاستراتيجي لحماية أمن روسيا وحلفائها، إلى جانب الحفاظ على التوازن العالمي، بخاصة مع تركيزها على الغواصات الحاملة للصواريخ الفرط صوتية مثل “تسيركون” العابرة للقارات، وذلك فضلاً عن أهمية مواكبة بلاده التطورات التكنولوجية العالمية، وهو ما أشار إليه بوتين في معرض حديثه عن أن الثورة الرقمية وانتشار ما يسمى “الأنظمة الروبوتية غير المأهولة”، تتطلب تحديث الأسطول البحري.
ولم يغفل المراقبون الإشارة أيضاً إلى أن “الاستراتيجية الجديدة” تستهدف كذلك تعزيز ما تقوم به روسيا من أجل مواجهة التحديات والتهديدات العالمية والمتغيرات الدولية، على ضوء ما يجري على صعيد المواجهة العسكرية مع أوكرانيا ومن يقف إلى جانبها من البلدان الغربية وبلدان الاتحاد الأوروبي، كذلك تستهدف هذه الاستراتيجية الجديدة ضمان قدرات البحرية الروسية على العمل في مختلف الظروف، بما في ذلك في المناطق البعيدة مثل المحيط الهادئ والمحيط المتجمد الشمالي، في ظل التنافس مع الولايات المتحدة وحلف “الناتو”،
وضرورة تحقيق التوازن من ناحية الكم والكيف مع الترسانة العسكرية الغربية، وبما يحقق قدرات البحرية الروسية على “الحفاظ على التوازن العالمي”، وما يتفق مع القول المأثور حول أن “زيادة النشاط العسكري الغربي، تتطلب رداً بحرياً قوياً”، وهو ما يبدو واضحاً في استعدادات روسيا التي تقوم بها في مناطق المحيط المتجمد الشمالي، بما تملكه من أسطول كاسحات الجليد الذي يعد الأكبر في العالم.