صراخ من صرصار ميت !
صخب وضجيج وصراخ وبلاغات وغضب كأننا على شفا حفرة من النار يدفعنا إليها «النجم» محمد رمضان، أو على أبواب عاصفة منفلتة من القيم سوف تجرفنا إلى هاوية الانحراف والتفسخ، بالطبع لا أطلب من الناس ألا تنزعج من الشكل الذى ظهر به «النجم» وهو يرتدى زيا يشبه بدلة الرقص الشرقي، فى مهرجان كوتشيلا الموسيقى بالولايات المتحدة، لكن الغضب الأعمى هو عقل معطوب يهيئ لأصحابه سهولة عبور طريق حر بين سيارات مجنونة السرعة.
قطعا لا يعنينى محمد رمضان بما يفعله، ولا حمالة الصدر الذهبية التى ارتداها وهو يغني، ما يعنينى هو رد فعل المجتمع، عقله وأساليب تفكيره وطرائق اتخاذه القرار فى أعمال لا تعجبه وتصرفات لا تتفق وتقاليده، فــ«رمضان» مهما كانت نجوميته مجرد فرد حتى لو كان مؤثرا فى بضع آلاف من الشباب أو مئات الآلاف أو بضع ملايين، فهذا التأثير، مع مجتمع عاقل رشيد، يشبه قذف حجر فى بحيرة، يصنع دوائر متتالية ، سرعان ما تهدأ وتختفي، ولا يبقى إلا الحجر مدفونا فى قاع البحيرة.
وإذا كنا لا نستطيع أن نعلم أولادنا وشبابنا كيف يحمون أنفسهم من «نفايات سلوكية» يصادفونها أحيانا فى الغناء والرقص والدراما وشبكات التواصل الاجتماعى والحياة عموما، فالمصيبة فينا، فى نظم التعليم والتربية والثقافة، وليست فى النفايات، لأن من طبائع الأمور أن أى نظام تشغيل سياسى واجتماعى واقتصادى وثقافى ورياضى تنتج عنه بالضرورة نفايات أو عوادم تشغيل، تأخذ أشكالا مختلفة: جرائم، انحرافات، تصرفات خارجة على القيم العليا، أمراض نفسية، أزمات فئوية وطبقية..الخ، والمجتمع العفى هو الذى يستطيع أن يتعامل مع نفايات تشغيله، يحد من توسعها، يحاصر مخاطرها، أى يهضمها دون أن تفسد من جيناته العامة، ثم يصحح نظم التشغيل ليقلل من حجم العوادم..وهكذا.
لكن ردود أفعالنا قد تُخيفنا أكثر من حمالة صدر محمد رمضان..
أولا: هل فيكم من يفهم أسباب هذا العدد من البلاغات ضده إلى النائب العام؟، التقاضى حق يكفله الدستور لأى مواطن يسعى إلى حماية مجتمعه، لكن التقاضى له أسس وقواعد قانونية، ليس منها الانفعالات المشتعلة، فالمحاكم قاعات أسباب مادية ملموسة، وليست قاعات تأويلات طائرة كسحابات دخان فى الهواء، والبلاغات تتهم رمضان بالتعدى على قيم المجتمع المصرى وعاداته، إذ ارتدى زيا يصفونه يشبه بدل الراقصات، والسؤال: هل هذا الزى كما وصفته البلاغات فيه خروج على القانون؟!، لا توجد مادة فى قانون العقوبات المصرى تعاقب صراحة الرجل على ارتداء ملابس تشبه زى النساء، لكن إجبار شخص ما على ارتداء ملابس نسائية فهو جريمة عليها عقاب رادع، والعقاب هنا ليس على الملابس ولكن على سياق الفعل.
ومن باب الافتراض ليس أكثر، لو اعتبرنا حمالة صدر محمد رمضان مخالفة للقانون، فالسؤال: هل يخضع هذا الفعل للقانون المصري، قطعا لا، لأنه لم يقع على الأرض المصرية، وإنما فى وادى كوتشيلا بولاية كاليفورنيا على بعد 12 ألف كيلومتر مربع تقريبا، فكيف يحقق النائب العام فى فعل غير مألوف ارتكبه مصرى على أرض أجنبية؟!، الفعل الوحيد الذى يمتد القانون إليه فى أى مكان هو الذى يهدد الأمن القومى المصري!
ثانيا: لم أجد مادة فى القانون تناسب التهمة الثانية، وهى إهانة العلم المصري، بأنه رفعه ولوح به، وهو يرقص مرتديا هذا الزى الذى يعد تشويها لرمزية العلم أمام المجتمع الدولي، وعموما يخلو القانون من أى شروط للزى الذى يلبسه أى مواطن مصرى وهو يرفع العلم ملوحا به، لكن القانون يحظر رفع أو عرض أو تداول العلم إن كان تالفا أو مستهلكا أو باهت الألوان، أو بأى طريقة غير لائقة، كما يُحظر إضافة أى عبارات أو صور أو تصاميم على العلم أو تنكيسه فى غير مناسبة الحداد الوطني، ويعاقب المخالف بالحبس مدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تتجاوز 30 ألف جنيه أو بإحدى العقوبتين.
وأظن أن كل القانونيين الذين قدموا البلاغات إلى النائب العام يعرفون هذه الحقائق البديهية..
ثالثا: كان تعامل الإعلام مع الزى المغضوب عليه فى غاية الغرابة، إذ توسع جدا فى نشر صوره وتنوعها مع أخبار القضايا المرفوعة على محمد رمضان، أى جعل أعين الجمهور تتأمله وتعتاد عليه وتألفه، وكان يمكن أن يكتفى كل موقع إخبارى بصورة وحيدة كاشفة، خاصة أن موقع «كوتشيلا الموسيقي» لم يحتف لا بالمطرب ولا بزيه، ونشر صور حفلاته ونجومها ولم يكن منهم محمد رمضان، ويبدو أن رمضان هو الذى سرب الصور على صفحاته، وأظنه فعلا وهو يدرك أن الزى سوف يثير ضجة تستمر أسابيع كما اعتاد فى حفلات وقضايا سابقة فى السنوات الأخيرة!
أى أن الزى والصور مقصودان لذاتهما، ويخاطبان «نوعية» خاصة جدا من جمهور قادر على دفع ثمن تذاكر هذا النوع من الحفلات الصاخبة.
باختصار لا رمضان ولا ألف على شاكلته يمكن أن يفسدوا قيم المجتمع، إذا كان المجتمع يملك «فلاتر» ذكية تعزل نفايات تشغيله عن مساره العام، وجهاز مناعة يصد أى فيروسات مدسوسة فى هذه النفايات، فيظل تأثيرها محدودا وهامشيا ووقتيا!
كان يجب على المجتمع أن يفكر بطريقة مختلفة ويتصرف بعيدا عن الصخب والضجيج والانفعالات، التى تستهوى محمد رمضان ويبحث عنها، وكان التجاهل هو أهم رد فعل، لكن مع إعلام ومواقع وصفحات تنقب عن القراءات الغوغائية تحول الفعل التافه إلى قضية زاعقة، ضجيج بلا طحن، بلاغات بلا قانون، بكاء بلا فعل، وصراخ من صرصار ميت..ولا عزاء لكم!.