بن حام وروح مصر
نبيل عمر
يبدو أن الروائى نادر الشرقاوى يهوى أن يفلسف أفكاره بعبارة كاشفة يختم بها أعماله، فعلها فى «أدريس هارلم»، وأعاد الكرة فى رواية «بن حام»، فكانت عبارته الختامية هى قبس النور الذى أضاء كل شخصيات الرواية وأحداثها ومغزاها الدرامى المفعم بالحيوية، وتقول العبارة: لا تندم أبدا على إنسانيتك!
هذه الكلمات هى مفتاح الباب المسحور، الشفرة التى اختارت شخصيات الرواية ورسمت ملامحها الداخلية وحددت تراكيبها النفسية، وأيضا زمن أحداثها وأماكنها، سواء فى شوارع القاهرة والإسكندرية، والتى تشابكت فيها علاقات أبطالها، من شباب ثورة 1919 وإنجليز وبوليس سياسى وقوادين وعاهرات وأولاد بلد ولاجئين، أو فى شوارع برلين وسراديبها الخفية التى راح فيها النازيون يستمتعون بلعبة الصياد والفريسة مع اليهود والعرب والأقليات والخصوم السياسيين ويلهثون خلفهم، ثم يعلنون الحرب على العالم أجمع.
نعم نحن أمام رواية، يعلى مؤلفها من «قيم الإنسانية» على أى اعتبارات اخرى، وتقود خطاه فى كل سطر فيها، ومن هنا قد جاء اسم الرواية «بن حام»، ويدع الكاتب سر التسمية محلقا أغلب الوقت، ولا يذيعه إلا بإشارات خفيفة فى النصف الثانى منها، فالإنسان بمفاهيمه وقيمه وسلوكياته هو «جوهرة» الحياة، لا أصله ولا فصله، ولهذا يقتحم نادر الشرقاوى منطقة شديدة الوعورة والارتباك تشتبك فيها الديانات: الإسلام والمسيحية واليهودية، مع الأوطان والصراعات الأيديولوجية والفكرية.
وبن حام أو «آدم السلمي» شاب مصرى، أو نصفه مصرى على نصف ألماني، أقرب إلى الخواجات بعينيه الخضراوين وبشرته البيضاء التى أكسبته ملامح أوروبية، الأب نجيب السلمى ضابط جيش ذو شأن برتبة قائمقام فى كتيبة مصرية تعمل فى السودان، تحت إمرة سردار بريطانى رفيع المقام ، يخدمه الضابط المصرى بإخلاص وتفان، والأم هيلده بوخ ألمانية، تعرف عليها فى الخرطوم مع أبيها تاجر الآثار والعاج وجلود الحيوانات المفترسة..
آدم فى البكالوريا بالمدرسة الخديوية، مضطرب حالم بأن يكون طبيبا، فى مواجهة أب يصرخ أن يكون قاضيا، وفيه قدر من الجبن والفزع، لكنه يبحث عن ذاته ويحاول التعرف على مكنونها، فيصادفها فى أحداث ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني، بين الرصاص وسقوط الطلبة شهداء أمام عينيه، فينقذ منهم ثائرا مصابا برصاصة فى صدره، ويرفعه على كتفه جاريا به إلى أقرب باب مفتوح، فيجده بيت دعارة.
من شوارع النار إلى بيت الدعارة، تناقض مدهش بين الشجاعة والوقاحة، بين الترفع والنذالة، بين التعفف والشهوة، بين التضحية والأنانية، وقد رسمه الكاتب بعناية وبراعة، وتحرك بين الوطنية والعهر دون أن يصدر أحكاما على شخصياتها، ويدعها للقارئ، وهذا أول درس فى الإنسانية، من الذى يدرك خبايا البشر وظروفهم ليحبسهم فى زنازين أحكامه القاطعة؟، من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر، ولهذا لم يغرز الكاتب أحداث روايته فى تفاصيل بيت الدعارة، إلا فى حدودها المرتبطة بالمعنى الأشمل فى حياة بن حام.
وفى بيت الدعارة بدأت خيوط جديدة تُنسج لحياة الشاب آدم، حب جارف وأشواق مشتعلة مع فتاة الليل نانا، ثم وطنية جارفة وتنظيم سرى مكون من مصريين مسلمين ومسيحيين ويهود، فالوطن رابطة الشتت، يوزعون من أجله منشورات زاعقة ويدبرون عمليات الاغتيال ضد الضباط الإنجليز، ومنهم السردار البريطانى الذى أنقذه الأب بسرعة نقله إلى المستشفى، دون أن يدرى أن الابن ضليع فى المؤامرة عليه..
وتنفجر أحداث الرواية كحمم بركان يغلى، ملاحقات البوليس، والتحقيقات الكثيفة، وأساليب الهروب وتعقد المصالح، ثم يسقط التنظيم السري، عقب محاولة طائشة لاغتيال الباشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية، محاولة استفزت طاقة البوليس القصوى تفتيشا ومطاردة، حتى توصل إلى بيت الدعارة، وتحت وطأة التعذيب الوقح للقواد وزوجته والفتيات، اعترفوا بتفاصيل عرت الوجوه المستورة، ولا ينجو إلا «نانا» التى تخفت فى زى راهبة ترعى اللاجئين الأرمن بكنيسة فى الاسكندرية.
ويرُحل الإنجليز الأم الألمانية إلى بلادها حسب قانون لا يقبل بالألمان فى مصر، ويقتلون الأب وهو يدافع عن وحدة أسرته، ويحكمون على آدم بعشر سنوات سجنا، يخرج بعدها ويهرب إلى برلين بحثا عن أمه! وفى برلين يعيد التاريخ نفسه بتفاصيل مختلفة، هتلر والنازيون وعرق نقى يضطهد كل الأعراق الأخرى والأجناس والأقليات، وكما انخرط آدم فى تنظيم سرى بالقاهرة، فعلها فى برلين بطريقة أكثر حرفية.
فى البداية عاد إلى حلمه القديم، بمساعدة الجد ذى العرق الألمانى النقي، فيدخل كلية الطب، ويتخرج طبيب عظام، ويحب ويحلم ببناء أسرة، وكادت حياته تمضى طبيعية، لكن عنصرية النازيين تفسد كل شىء، أولا تحرمه من ممارسة الطب، باعتباره أجنبيا من أبناء حام، وتطارد عائلة شتاين جيرانه اليهود المقربين الذين من أصل سام، وتعتقل كلارا حبيبته الألمانية المعارضة، فلا يستطيع الصمت ولا يبتلع الأمر الواقع، فينهض ويتحرك لإنقاذ ضحايا النازية من براثن الاعتقال والتعذيب، خاصة أبناء حام وسام، وتهريبهم إلى خارج ألمانيا، وكما تخفت نانا المصرية فى زى راهبة، تتخفى ناعومى الألمانية فى زى «أمينة المحجبة» بشهادة رسمية مستخرجة من مركز إسلامي، فإنسانيته لا تفرق بين البشر.
صحيح أن عذابات آدم تتراجع بانهيار النازية ودخول السوفيت إلى برلين، لكن سؤال الإنسانية قفز إلى حياته مع عدوان إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على مصر فى أكتوبر 1956: هل مساعدتى لليهود كانت خطأ؟
تمتد أحداث الرواية 37 عاما، استعان فيها الكاتب بشخصيات حقيقية، مثل سكسكة والحكاك والسردار البريطانى لى ستاك، والزعيم النازى هتلر وجوزيف جوبلز والحاج أمين الحسينى مفتى القدس، لكنه أعاد تفسير الأحداث بما يخدم الإجابة عن السؤال الصعب، نعم إنسانيتنا هى الأصل.