فى العام ٢٠٠٧، خطط قسم الاقتصاد بـ«المصرى اليوم» ونفذ موضوعا بعنوان «مباراة المقار الفاخرة تشتعل بين الشركات المصرية».
كانت الفترة ذروة انتعاش البزنس فى مصر خلال عقود طويلة، بغض النظر عن التقييم السياسى الاقتصادى لتلك الفترة.
وقتها كانت قد بدأت تظهر بوضوح ملامح التنافس بين الشركات الكبرى بما فيها البنوك، العامة والخاصة، على امتلاك مقار فاخرة، رغبة فى مواكبة الحداثة العقارية من جهة، ومن جهة أخرى بسبب الدوافع الشخصية والتقليد، فإذا كان مكتب الأستاذ فريد خميس (رحمه الله) بالشكل الفلانى، فهناك عدد من رجال الأعمال سيقولون لأنفسهم: إحنا مش أقل من فريد.
كان التباهى بالمكتب الشخصى الفخيم سابقا بفترة عن التباهى بمقر إدارة فخيم، ومع حكومة الدكتور أحمد نظيف، التى أطلقت العنان للبزنس، وبمجىء شركات خليجية معروفة، ترسخت ثقافة المقر الأبهة أكثر وأكثر.. ثم دارت الأيام والعقارات، وجاءت ثورة وذهبت، وهبت أخرى فى ٣٠ يونيو، وبدأ القطاع الخاص يعيش لحظات مكاشفة مع الذات تأخر موعدها، أو اضطرته التحولات إلى أن يقوم بها، وبدأت موجة العناية بالفخامة تتراجع تحت ضغوط واقعية لدى الشركات وأصحابها.
فى هذه الأثناء هبت رياح كورونا وفترت مبيعات العقار وتشوش الطلب بشكل عام، لكن فيما يخص الإدارى والتجارى بخاصة حدث نوع من هبوط المبيعات لأسباب، منها طبعا أن الإغلاقات كشفت أن تكاليف المقار أصبحت كبيرة ولا تتلاءم مع التحولات التى جرت فجأة فى نظام العمل وعدد العاملين والدورة الجديدة، الهجين بين العمل بالمكتب والعمل بالبيت، وظهر أيضا أن التكنولوجيا أصبحت إحدى حقائق سوق العمل والأعمال، من ثم لابد من مرونة مكانية (مقارية) مثيلة للمرونة فى تشغيل العمالة فى الوضع الجديد، وفى رحلة التكيف مكتبيا مع ما بعد كورونا ظهرت أفكار لا آخر لها حول شكل وحجم ووظيفة المقر الإدارى ونوعية العقود الخاصة به من إيجار مؤقت إلى نصف دائم إلى تشاركى إلى مقر طائر أو طيارى… إلخ. بالتأكيد وحسب موقع كندى متخصص سيبقى المكتب بمثابة المرساة الحيوية للشركة وعمالتها، وموقع تلاقى مهم، وبخاصة بين ومع الموظفين الجدد ولبعض دورات التدريب والأنشطة التفاعلية الحية… إلخ. لكن لن يعود الإقبال على اقتناء المقار الإدارية أبدا إلى النمط الذى كان عليه. يوجد أيضا عامل مؤثر على الطلب هو بروز جيل جديد من رؤساء الشركات لهم ملامح وأنماط تفكير مختلفة تماما عن الآباء أو الجيل السابق. وحتى من كان من الشباب فى وقت سابق سعيدا بمكتب دادى أو باابى، أصبح كجيله ميفرقش معاه هذا، ولا تستهويه ألعاب التنافس المقارى تلك ويميل إلى حسابات التكاليف والعائد الباردة. ويسعى إلى المقار الذكية الرشيقة، ويعتبر نقطة التباهى المكانية هى فقط أن يقول إنه متواجد فى كذا دولة أو فى دول كيت وكيت وكيت.
أبعد من ذلك فإن شركات خليجية كبرى جاءت إلى مصر مؤخرا اكتفت بمكان فى مول مع عناية خاصة بالمشهد الديكورى. بالطبع.
وتراجعت نسبيا شهية من يشترون عقارات إدارية بغرض إعادة البيع أو الاستثمار، وتوقف مطورون كبار عن استكمال الجزء الإدارى ذى المساحات الكبيرة، فى مشاريعهم التطويرية بعد أن رأوا أن ما تم استكماله بطىء التصريف.
تغير كذلك المنظور الجغرافى لتواجد الشركات، ففى أيام نظيف كانت القرية الذكية أحد أهم الارتكازات وكانت هناك بعض الضغوط السياسية فى الحقيقة لدفع شركات عامة وخاصة للتواجد بها. الآن الدفة اتجهت إلى التجمع، ثم العاصمة الإدارية، ولايزال المعروض كبيرًا والطلب مرتبكًا.
فى وسط البلد أصبح من الصعب للغاية تصريف وحدات إدارية كبيرة المساحة، رغم كل مزايا الموقع، حيث لا يرغب أحد فى تأطير وجوده بالمنطقة، خاصة أنه يحدث فى الإدارى الآن ما يحدث فى السكنى فمن يشترى يسأل نفسه أولا قبل الشراء.
هل سأتمكن من البيع عندما أريد؟. وإجابة مثل هذا السؤال ليست غالبًا فى صالح وسط البلد أو مناطق كالمهندسين أو مدينة نصر.
يستثنى من ذلك طبعًا المكاتب المهنية المختلفة (بما فيها سناتر الدروس وما يشبهها)، ولذا فالكل يترقب تحليل الطلب على الوحدات الإدارية فى أبراج ماسبيرو، من أجل أن يعرف إلى أين تنتهى القصة. فى المحصلة فإن المباراة العقارية التى اشتعلت منذ ١٥ عاما انتهت إلى مصير يشبه مصير مباراة مصر والسنغال.. جمهور كبير يحلم بأن تعاد، لكن العقلاء يعرفون أن محمد عبد المطلب كان محقا إلى حد بعيد فى شعاره: «عمر اللى راح ما حيرجع تانى».