مازالت أصداء القرار الخاص بتحرير التعاملات في سوق النقد الأجنبي تثير العديد من النقاشات والحوارات، وتعددت الآراء وتنوعت ما بين مؤيد ورافض ومتحفظ.
وهذا طبيعي نظرا لأهمية وخطورة هذه العملية. ولكن وللأسف الشديد فمن الملاحظ أن معظم هذه النقاشات والحوارات تعاملت مع المسألة إما بشكل جزئي، أو دون التعمق الكامل في فهم المسألة بأكملها. الأمر الذي أفقدها الكثير من المصداقية والموضوعية، بل وخرج معظمها عن العلمية والعملية، فغاب عن النقاش القضايا الأساسية المرتبطة به.
إذ يتطلب الحكم الموضوعي على هذا القرار ضرورة تناوله فى إطار رؤية شاملة لسعر الصرف وقضاياه المختلفة، وهى قضايا ليست بالبساطة التي يتصورها البعض.
فالحكم على الآثار الإيجابية أو السلبية لها يتطلب الإجابة عن أربعة أسئلة أساسية، أولا ماهي الآثار السلبية للنظام السابق؟ وبمعنى آخر ماهى التكلفة المجتمعية التي تحملها المجتمع للحفاظ على النظام السابق، وهل كان الإقتصاد المصري قادرا على الإستمرار فى تحملها أم لا؟ وإذا كانت الإجابة بالنفى فان التساؤل الثاني يصبح هل الإجراء الذي تم هو أفضل بديل ممكن في ظل الظروف الحالية، أم كانت هناك بدائل أفضل لتحقيق الأهداف المرجوة ولم يتم الأخذ بها؟ .
ثالثا ماهى أوجه الإعتراضات على القرار، ومدى صحتها؟ وأخيرا وانطلاقا مما سبق هل هناك إجراءات مكملة لهذا القرار تساعد على تحقيق الفائدة المرجوة منه؟ .
وعند محاولتنا الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها تجدر بنا الإشارة أولا إلى أن المتتبع لتطور الجنيه المصري خلال الفترة السابقة يلحظ انه آخذ في التدهور المستمر وظل يواصل تراجعه إلى أن وصل الدولار إلى 24.5 جنيه.
الأمر الذي يشير إلى أن هناك أزمة حقيقة في العملة المصرية، حيث تعرف أزمة العملة على انها الحالة التي يحدث فيها هجوم على عملة دولة ما وينتج عنها من إنخفاض شديد فى قيمتها يقدر بنحو 25 % سنويا على الأقل، وزيادة هذا الانخفاض عن السنة السابقة بـ 10 %، أو تدهور الإحتياطات من العملات الأجنبية أو كليهما معا.
فالتخفيضات الكبيرة وغير المنتظمة فى قيمة العملة تشير إلى أزمة حقيقة. كما يلاحظ المتتبع للسوق أن هناك اتساعا متناميا للمعاملات غير المشروعة فى السوق السوداء، وأن أسعارها تفوق السعر المركزي لدى الجهاز المصرفي، بل وأخذ الهامش بينهما فى الإتساع بشدة. وخطورة هذا الأمر تكمن فى أن نمو هذه المعاملات بصورة متزايدة يساعد على تهريب رءوس الأموال من جهة وتناقص متحصلات البلاد من العملات الأجنبية من جهة أخري.
بل والأخطر من كل ما سبق هو ازدياد الطلب على العملة للمضاربة وليس لأغراض التعامل التجاري العادي، ويؤدى إلى توظيف جانب كبير من مدخرات العملات الأجنبية فى عمليات المضاربة فى السوق السوداء، وهو ما يمثل التربة الملائمة لنمو الطلب على العملات الأجنبية لأغراض المضاربة.
هذا فضلا عما يحدثه من آثار على حساب المعاملات الرأسمالية، حيث يزداد الشعور بالقلق ويدفع رأس المال إلى الهروب خاصة في ضوء التخوف من تخفيضات جديدة. وكان من الطبيعي إزاء التدهور المستمر فى القيمة الخارجية للعملة والتشوهات العديدة فى سوق الصرف الأجنبي أن تحاول الحكومة معالجة الموقف، خاصة أن الإستمرار في الوضع السابق كان يتطلب التدخل المستمر من البنك المركزي بالعملة الأجنبية مما أدي إلى فقدان نحو ثمانية مليارات من الإحتياطات النقدية، دون أن تحقق الإستقرار المرجو منها. فى هذا الإطار جاء الإعلان عن الإجراءات الجديدة المتمثلة فى تحرير التعامل بالنقد الأجنبي شراء وبيعا فى إطار السوق الحرة.
وعند تقييمنا لهذا القرار تجدر الإشارة إلى أن سياسة الصرف المثلى تهدف بالأساس إلى علاج الإختلالات المزمنة والهيكلية فى موازين المدفوعات عن طريق الإستخدام الأمثل للموارد المتاحة من النقد الأجنبي. وبمعنى آخر أن تمكن سعر الصرف من أداء الوظائف المنوطة به، وبصفة خاصة المساهمة فى زيادة حصيلة البلاد من العملات الأجنبية عن طريق إعادة صياغة السياسة الإقتصادية بما يجعلها كفؤا لزيادة حصيلة الصادرات المنظورة وغير المنظورة.
وعادة ما تهدف السلطات النقدية من وراء ذلك إلى تحقيق هدفين، أولا السيطرة على استخدامات العملات الأجنبية عن طريق تحويل المعاملات بالنقد الأجنبي إلى الجهاز المصرفي بإعتباره القناة الشرعية والقانونية ،وثانيا تحقيق الاستقرار النسبي لسعر الصرف وتشجيع تدفق العملات للداخل والحد من هروب الأموال.
انطلاقا مما سبق فإن تحرير التعامل بالنقد الأجنبي سوف يحقق العديد من المزايا الهامة على رأسها إعادة التنظيم والإنضباط للأوضاع داخل السوق، فالوضع في السوق سوف يحكمه العرض والطلب، من هنا فإن عودة البنوك للسيطرة على هذا النشاط ستؤدى حتما إلى عدة مزايا منها الزيادة المتوقعة من جانب العرض، حيث يستطيع العامل المصري في الخارج تحويل مدخراته بسعر السوق دون تردد أو تخوف كما يؤدى إلى استبعاد السماسرة الذين كانوا يتسببون في زيادة قيم العملات الأجنبية.
وبالتالي تهدئة المنافسة على استقطاب مصادر البلاد من العملات الأجنبية كالسياحة أو الصادرات أو التحويلات. وكذلك سيؤدى إلى تسهيل التعامل بالنقد الأجنبي كما سيساعد على الوصول إلى التكاليف الفعلية لجميع المنتجات.
أما من ناحية الطلب فإن العبء الأكبر يقع على الدولة التي تستطيع التحكم في معظم الواردات.ورغم هذه المزايا فإنه ولكي تؤتى السياسة الجديدة ثمارها فإن الأمر يتطلب بالضرورة استكمالها بعدة إجراءات مهمة يأتي على رأسها ضرورة تعزيز الطلب على الجنيه المصري، وهو ما يتطلب ألا يسمح لأي تعاملات إلا في إطار السوق المشروعة ومنع التعامل بالدولار في أى معاملات داخل البلد. مع تقوية وتدعيم الجهاز المصرفي بحيث يصبح قادرا على فرض سطوته وسيطرته على الأسواق، وهو ما يتطلب العمل على حل المشكلات الكامنة فيه. وأخيرا لابد من سياسة نقدية مستقلة بدرجة كبيرة وغير مقيدة بإعتبارات مالية للدولة.