من المفارقات في الوطن العربي الكبير أن مصر، الأكثر تكدسا بسكانها الذين يتجاوزن المائة مليونا يتكدسون على أقل من 10% من مساحتها التي تبلغ أكثر قليلا من مليون كيلومتر مربع. فكان كل كليومتر يأوي في المتوسط أكثر قليلا من مليون شخص. وهي بذلك من أكثر بلدان العالم كثافة سكانية.
ولكن ذلك، رغم ضخامتة، ليس كل قيمة الأرض والسكان. فمصر معظم أرضها صحراء جرداء. فالمائة مليون مصري يعيشون، أو بالأحرى يتكدسون على أقل من 10% من مساحة أرضها، أو ما يسميه الجغرافيون المعمور. وذلك معناه أن الكثافة الفعلية في الجزء المعمور من أرضها، وهي مائة ألف كيلومتر مربع، هو عشرة ملايين شخص في كل كيلومتر من أرضها، ليجعلها من أكثر بلدان العالم كثافة سكانية.
وقد يستغرب القارئ اذا ما علم أن مصر بذلك أكثر تكدسا من كل من الصين والهند. فرغم ضخامة سكان ذلكما البلدان الأسيويان (أكثر من مليار شخص لكل منهما)، الا أن مساحة المعمور فيهما يتجاوز ثلثي مساحتهما، ولا يلحظ الزائرين في كل منهما كثافة أو تكدس سكاني الا في أكبر مدنهما. ومع ان مصر بذلك المعنى هي الأكثر تكدسا، عربيا وعالميا، ولا يتجاوزها في ذلك أفريقيا الا نيجيريا، ثلاثمائة مليون، في غرب القارة الأفريقية.
وتستضيف مصر منهم حوالي نصف مليون لاجئ نيجيري. ورغم كل حقائق التكدس السكاني في مصر، والتي يوثقها الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء، والذي يعلو مبناه ساعة سكانية تسجل عدد المواليد واجمالي السكان في مصر، كل دقيقة، أملا في أن يكون ذلك حافزا لهم للحد من تناسلهم، ولكن يبدو من استمرار المعدل العالي للتزايد، أن المصريين لا يعيرون أي أهمية لتلك الساعة السكانية!
في كل الأحوال، وحتى لا نبتعد أكثر من ذلك عن عنوان هذا المقال، فان مصر الأكثر سكانا والأكثر تكدسا، فانها تستضيف على أرضها حوالي عشرة مليون من الأشقاء العرب والأخوة الأفريقيين. فطبقا لأرقام الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء، فان مصر في عام 2020 كانت تستضيف حوالي عشرة مليون عربي، نصفهم تقريبا من السودان، يليهم في ذلك ثلاثة ملايين من الشقيقة سوريا، ثم حوالي مليون عراقي، وحوالي نصف مليون فلسطيني، ونصف مليون ليبي، ثم بضعة الاف من بقية الجنسيات العربية الأخرى.
وأهم الخلاصات في هذا الصدد، هو أنه رغم أن مصر هي من أفقر البلاد العربية (الأفقر منها هي اليمن والصومال والسودان)، الا أنها كانت وما زالت الأكثر استقرارا وأمنا، وأهلها الأكثر كرما وترحيبا بالأشقاء العرب، وثقافتها الأكثر ثراء وجاذبية لبقية الأشقاء العرب، ولذلك أصبحت أكبر الملاجئ لمن شردتهم الحروب الأهلية أو القلاقل العرقية في بلادهم.
أكثر من ذلك أن حكومة مصر، كما نوه الرئيس عبد الفتاح السيسي، في أكثر من مناسبة، لا تعزل من يأتون اليها في معسكرات أو مخيمات لاجئين، ولكنها تدمجهم مكانيا واجتماعيا ضمن سكانها، وتعاملهم معاملة مواطنيها في تقديم الخدمات المعيشية والتعليمية والصحية.
وللأمانة والدقة فان المجموعات والجاليات العربية تسهم بدورها في اثراء الثقافة المصرية -فنا وابداعا وأسواقا. من ذلك على سبيل المثال، لا الحصر، أن الأخوة السوريين قد أغنوا المشهد المصري تجاريا وترويجيا. وأصبحت المتاجر والمطاعم السورية هي الأكثر رواجا وجاذبية للكثير من المصريين، الشباب منهم والكهول. ولم يقتصر ذلك على المدن الكبرى -مثل القاهرة والاسكندرية، بل شمل عواصم المحافظات المصرية، مثل المنصورة، وطنطا، والزقازيق، والمنيا، وأسيوط.
والخلاصة الثانية هي أن ثمة وحدة عربية شعبية تتحقق على الأرض بين المصريين وأشقائهم العرب، دون وعظ أيديولوجي أو فذلكات سياسية. فتحية لمصر الشقيقة الكبرى، فعلا، قولا وعملا، ومرحبا بكل عربي يعتبر مصر وطنه الثاني. وفي النهاية، نؤكد أنها أمة واحدة ذات رسالة خالدة. وهذه شهادة لوجه الله والتاريخ. والله أعلم. وعلى الله قصد السبيل