شغل اللواء أبو بكر الجندي منصب رئاسة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعدة سنوات، أتم فيها الجهاز تعدادين لسكان مصر. والرجل هو الذي نفذ فكرة الساعة السكانية، التي تعلو مبنى الجهاز، بحيث يراها سكان مصر، وزيادتهم كل ثاتية، وذلك لتنبيه الجميع عمليا بالمعدل المتسارع للسكان. فالأرقام عنده تغني عن أي كلام، وعن أي وعظ أو إرشاد بالكلمات!
ولكن من مآثر اللواء أبو بكر الجندي العديدة، انه يتابع بنفس الدقة كل ما يكتب في وسائل الإعلام عن الشأن السكاني، ويقوم بتصحيحه وتصويبه، إذا احتاح التصحيح أو لزم التصويب.
ومن ذلك أنه اتصل بي للتنويه بمقالنا في هذه الصحيفة، المصري اليوم، بعنوان: “رغم تكدسها السكاني.. مصر تستضيف عشرة مليون لاحئ”.
وبعد التحية، سألني عن مصدر ما ورد في المقال، وخاصة في العنوان من أرقام، فأخبرته بأنها نقلا عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. فاجأني الرجل بتهذيب شديد، أنه راجع مساعديه السابقين واللاحقين في الجهاز، فنفوا أنهم مصدر ذلك الرقم (عشرة مليون لاجئ)، فضلا عن أن الجهاز في مطبوعاته ونشراته لا يستخدم مصطلح لاجئ، ولكن فقط مصطلح زائر، طبقا لمن يمرون على المنافذ الحدودية. ومفهوم الزائر واضح ومحدد. أما مفهوم اللاجئ، فهو مفهوم فضفاض، وتتداخل فيه الأبعاد الإنسانية مع السياسية، مع الاقتصادية. كما أن عابر الحدود لا يسجل في بطاقة الدخول، أو لموظفي الجوازات والجنسية أنه أتى لمصر لاجئا، خوفا من أن يرفض السماخ له بدخول البلاد.
ويضيف اللواء الجندي أنه عجز خلال سنوات رئاسته للجهاز في إقناع بعض أجهزة الدولة الأخرى في تبادل المعلومات والأرقام التي تجمعها مستقلة عن جهاز التعبئة والإحصاء. وأشاد الرجل بالاستثناء الهام، وهو وزارة الصحة، حيث يتم تسجيل المواليد والوفيات، بدرجة عالية، وإن لم تكن مطلقة، من الدقة. وذلك لحرص المصريين على الحصول على شهادات مواليد رسمية لأبنائهم لدخول المدارس، وبطاقات التموين، وجوازات السفر، ثم لأغراض الدفن بعد الوفاة!
وأضاف اللواء أبو بكر الجندي معلومات هامة عن غير المصريين المقيمين في مصر، من البلدان العربية الشقيقة. كان أهمها بالنسبة لي أن السوريين والعراقيين اشتروا بعض المصانع والشركات المتعثرة، وأعادوا تشغيلها بمهارة كبيرة. ولم يقتصر نشاطهم على المطاعم ومحلات البقالة. وأنهم يمليون إلى السكنى في أحياء معينة بالقاهرة والجيزة والإسكندرية. كما أنهم قد أسسوا مدارس لأطفالهم، تجمع بين المناهح الرسمية المصرية ومناهج بلدانهم، تحسبا لاحتمالات العودة إلى أوطانهم الأصلية.
وهذا كله رغم أن مصر تعامل الأشقاء العرب والأفارقة معاملة المصريين فيما يتعلق بخدمات الصحة والتعليم. وبهذا المعنى فقد تأكدت من صحة مقولة، أرددها كثيرا في كتاباتي، وهي أن لكل عربي وطنان: موطن بلاده، ومصر كوطن ثاتي.
لقد طال الحديث وتشعب مع اللواء الجندي، واستفدت منه استفادة كبيرة، ودعوته للحديث لزملائي في مركز ابن خلدون، أو لتلاميذي السابقين في الجامعة الأمريكية، ورحب الرجل، وشكرني على الدعوة.
وبعد إنهاء تلك المكالمة الهامة، تأملت إسهامات المؤسسة العسكرية المصرية في حياتنا العادية، خارح مهامها التقليدية في تأمين حدود البلاد، والدفاع عن أرضها وسماواتها، وبحارها. فرغم أن لي ولمصريين آخرين تخفظات على أنشطتها المدنية، خارج وظائفها التقليدية، فإن الشاهد هو أن ما يتسم به أبناء تلك المؤسسة من ضبط وربط وسرعة تعلم على كل ما هو جديد، قد جعلهم من أكثر فئات المجتمع جاهزية للخدمة العامة. نرى ذلك في مرافق حيوية هامة – مثل قناة السويس، واستصلاح وتعمير الصحاري، أو في أعمال ومهام الإغاثة في الأزمات والجوائح والنكبات. رأينا ذلك، مثلا، خلال جائحة كورونا، والتي عبرتها مصر بالحدود الدنيا، من الضحايا، مقارنة بمعظم بلدان العالم، شرقا وغربا.
وبالمناسبة، فإن ذلك هو الذي حدث في عديد من البلدان الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فمع تسريح أعداد كبيرة من شبابها ورجالها الذين كانوا يخدمون من مسارح العمليات، وهم في الثلاثينات والأربعينات من أعمارهم، وما زالوا راغبين وقادرون على العطاء، فقامت الحكومات الغربية بعدة إجراءات منها:
1- اتاحة الفرصة لمن يرغب من أولئك الجنود، ولم يكونوا قد أتموا تعليمهم، بعمل ذلك في فصول مسائية للمراحل قبل الجامعية، ثم الالتحاق بالجامعات لمن يرغب، وتؤهله درجاته لذلك. وتتحمل الحكومات مصروفات ورسوم الدراسة. وعرفت الإدارات المختصة بذلك باسم إدارة المحاربين السابقين Vetrems Adminstration(V.A).
2- السفر في كل وسائل النقل والمواصلات بنصف الأسعار.
3- الأولوية في تقلد الوظائف الحكومية. ذلك كله فضلا عن تسهيل إنشائهم لأنديتهم ودور رعايتهم.
4- إعطاء المحاربين القدماء أولوية تملك الأراضي المستصلحة بواسطة الدولة.
وهكذا، أوحت لي المكالمة الهاتفية مع اللواء أبو بكر الجندي بما تقدم من خواطر، وتسجيل بعض ما تذكرته من أسفاري في بلدان عديدة خلال النصف قرن الماضي. فشكرا لذلك المحارب المخضرم، والذي لا يتوقف عن العطاء.