لم يفرح الغرب طويلاً، ولم تستمر احتفالات أوكرانيا لأكثر من بضع ساعات، عاد الرئيس فلاديمير بوتين بعدها ليسترد كثيراً من وقار روسيا ومواقعها على خريطة السياسة الدولية. لا ريب في أن هناك من “النواقص والسلبيات” ما أفقد الداخل الروسي بعضاً مما كان يتمتع به من هدوء نسبي، وما كان يتمتع به من استقرار لافت منذ بداية العملية العسكرية الروسية في فبراير (شباط) من العام الماضي. ولا شك في أن صدعاً “طفيفاً”، أصاب الصرح الذي لطالما أكد صموده أمام سابق المحن والنوائب، وإن لم ينل كثيراً من “ذات الرئيس بوتين”، وهو الذي استطاع استعادة زمام القيادة، والحد من التوتر، ووقف التحرك نحو العاصمة موسكو، خلال “أقل من 24 ساعة”، وإن حقق ذلك بمساعدة رفيقه وصديقه ألكسندر لوكاشينكو رئيس بيلاروس، حليفه في مواجهته مع الغرب.
إنها “الحرب ومفاجآتها”، ومعها ما يقول أيضاً إن القريب القادم، لا بد وأن يحمل مزيداً من المفاجآت، بل وثمة ما يشير إلى أن منها، ما سيتعلق بتبعات ما حدث، وما لا بد أن تستخلصه روسيا الرسمية من دروس لما ارتكبت من أخطاء، يعتبر البعض أن منها ما قد يقترب من حد الخطايا. وإذا كان هناك من يقول “إن سيد الكرملين بعد هذه المحاولة الانقلابية، ليس هو نفسه سيد الكرملين في ما قبلها”، فإن الواقع والمؤكد هو أن الأمر لم يبلغ بعد ذلك الحد الذي ينشده خصومه، وأن الأمر لم يكن في جوهره ومضمونه يتعلق “بمحاولة انقلاب تستهدف فيه مجموعة من خمسة آلاف مقاتل”، مهما كان تسليحها، “إطاحة بوتين” بكل ما تملكه العاصمة وبوتين من أسلحة وعتاد.
ومع ذلك يعتبر غالبية الروس أن الرئيس الروسي، في سبيله إلى الخروج من هذه “المحنة” أقوى من ذي قبل، على النقيض مما يتصور البعض من خصومه وأعدائه ممن يتعلقون بأهداب الأمل في رحيله أو التخلص منه، وهو الذي توصل إلى “خنق الأزمة” ولم يكن مضى عليها أكثر من 24 ساعة.
“جرس إنذار”
وكانت موسكو سارعت إلى إعلان أنه “من غير الوارد” أن يؤثر تمرد “فاغنر” على الحملة الروسية ضد كييف، إلى جانب تأكيدها حول استمرار “العملية العسكرية الروسية الخاصة” في أوكرانيا. ونقلت المصادر عن الرئيس بوتين، ما قاله حول، إن بلاده على ثقة من تحقيق كل خططها ومهامها، في أوكرانيا، وهو ما اعتبره مراقبون كثر إعلاناً من جانبه عن تجديد للثقة في قيادة الجيش، بعد ساعات من إنهاء تمرد قوات “فاغنر”، وإن كان ذلك لا يعني إغفال احتمالات ما قد يطرأ من تغييرات في صفوف النسق الأعلى للقيادات العسكرية، في إطار ما سبق وقاله بوتين حول إن “العملية العسكرية الخاصة” كشفت عن “جنرالات الاحتفالات”، في إشارة إلى القيادات التي رأى أن “الميدان” أثبت ضعفها وفشلها في مواجهة الصعاب.
مثلما كشف في الوقت نفسه عن “شباب أبطال” أبلوا بلاء حسناً، ومن تعلق عليهم روسيا كثيراً من آمالها، وذلك على النقيض مما راحت وسائل الإعلام الغربية، تصفه بـ”الانقلاب” تارة، و”التمرد العسكري” تارة أخرى، بل وهناك من قال إنه يمثل “جرس إنذار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بضرورة إنهاء تلك الحرب، للتفرغ لترميم البيت الروسي من الداخل، ومواجهة حالة عصيان قد تتجدد، في ظل رفض البعض لاستمرار الحرب”.
ومن هنا تعالت “أصوات” في الداخل الروسي تقول إن “بوتين زعيم لم يخسر طوال فترة حكمه التي جاوزت 23 عاماً، حرباً واحدة، بداية من مواجهاته الإرهاب والحركات الانفصالية في شمال القوقاز منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي. وتستدل هذه الأصوات في ذلك بما شهدته العاصمة موسكو من عمليات إرهابية طالت تفجير المساكن، ومترو الأنفاق، وغير ذلك من أحداث قالوا آنذاك إنها تهدف إلى إطاحة نظام بوتين، وما اعتبرته دوائر غربية عدة بداية تشرذم جمهوريات ومقاطعات روسيا الاتحادية.
ونضيف إلى ذلك بعضاً من تاريخ روسيا، ومنه ما شهدته من بلوغ القوات الهتلرية مشارف العاصمة موسكو على مقربة من الكرملين لا تتجاوز 10 كيلومترات، كانت بداية الزحف السوفياتي الذي لم يتوقف إلا بعد رفع راية الاتحاد السوفياتي فوق قبة الرايخستاغ في قلب العاصمة برلين، مستبقة في ذلك موعد وصول القوات الأميركية والبريطانية.
على أن ذلك لا يعني وبطبيعة الحال، غياب السلبيات، وعدم وقوع الأخطاء، وانتفاء القلق الذي يساور كثيرين من أبناء الدولة الروسية، ممن يطالبون بضرورة إحكام طوق “الحساب والعقاب”، وعدم تكرار أخطاء السبعينيات التي عادت أخبار وتفاصيل سلبياتها تطفو ثانية إلى سطح الحياة السياسية والإعلامية في روسيا، سعياً وراء العودة إلى فتح ملفات تلك الحقبة التاريخية، وتصحيح ما يلزم.
ونذكر أننا سبق وأشرنا في تقارير الأمس القريب، إلى أن من يمني النفس بتغيير بوتين واستبداله بآخر قد يكون أكثر ليبرالية ومرونة، عليه الاستعداد لاستقبال آخر، قد يخرج من معطف بوتين، أكثر راديكالية وتشدداً عن ذلك الذي لطالما كشف عن مرونة واستعداد للتعاون بل والتحالف مع الغرب، وهو الذي استهل سنوات حكمه بمفاتحة الرئيسين الأميركيين السابقين بيل كلينتون، وخلفه جورج بوش الإبن، حول مسألة انضمام روسيا إلى الناتو. ولنا في ما نتابعه خلال الفترة القليلة الماضية من تصريحات سلفه دميتري ميدفيديف التي تتسم بكثير من التشدد، خير مثال، وهو الذي سبق وأبدى من الليبرالية والمرونة، ما هدد بضياع المكاسب، على حد توقعات كثيرين من رموز الحركة القومية في روسيا، وما كان ضمن مبررات قيام “الجبهة الشعبية” في مايو (أيار) 2011.
“عقاب لا مفر منه”
أما عن “فاغنر” ومؤسسها يفغيني بريغوجين ومستقبلهما، فهناك من الشواهد ما يشير إلى أن ما توصل إليه رئيس بيلاروس من اتفاق أسهم في وضع حد للتوتر الذي كاد يودي بالبلاد إلى “ما لا تحمد عقباه”، لا يمكن أن يكون القول الفصل. ولعل المتابع لتاريخ فلاديمير بوتين وما “ينسبونه إليه” من إجراءات وخطوات ضد مناوئيه من زعماء الحركات المسلحة في الشيشان، وغيرها من مناطق شمال القوقاز، يتذكر تلك النهايات التي حاقت بأولئك الزعماء أينما كانوا، وهو مصير لم ينج منه خصوم بوتين ممن ناصبوه العداء سواء من كبار “أوليغارشيا” ذلك الزمان، أو “رموز الاستخبارات ممن خانوا العهد”، وانتهى بهم المطاف بالهرب وكانت نهاياتهم إما “نحراً” أو “انتحاراً”.
ومن هؤلاء الملياردير الروسي بوريس بيريزوفسكي وضابط الاستخبارات ألكسندر ليتفينينكو، وعدد من رؤساء وزعماء الشيشان مثل جوهر دودايف، وسليم خان يندرباييف، وأصلان مسخادوف، وشاميل باساييف.
وإلى حين مشابه، يتوقف المراقبون للتفكير ملياً في ما توصل إليه الرئيس لوكاشينكو مع بريغوجين زعيم “جماعة فاغنر”، من اتفاق حول انتقال الأخير للإقامة في بيلاروس، وهو الذي سبق وأعلنته بلدان غربية كثيرة في صدارة قوائم عقوباتها ضد روسيا وقياداتها الموالية لبوتين. أما عن قرار السلطات القضائية الروسية حول إقامة الدعوى الجنائية ضد بريغوجين، وما قاله دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين حول “إسقاط هذه الدعوى الجنائية ضد بريغوجين”، فإن ذلك يظل رهن ما قاله حول “إنه يتعلق بكلمة رئيس روسيا”.
وكانت السلطات الروسية سارعت إلى إقامة الدعوى الجنائية ضد بريغوجين بموجب المادة 279 من القانون الجنائي (تنظيم تمرد مسلح). وقال بوتين في خطاب وجهه إلى الشعب، “جميع المسؤولين عن محاولة التمرد سيلقون عقاباً لا مفر منه، وسيحاسبون أمام القانون والشعب”، إلى جانب وصفه لما حدث بأنه “طعنة في الظهر” و”خيانة”، وذلك في الوقت الذي عاد بريغوجين أدراجه إلى محاولات تبرير تصرفاته، وما دفعه إلى “التمرد” ومحاولة التحرك صوب العاصمة موسكو. ومن هذه المبررات ما تتناقله وسائل الإعلام الغربية حول عدم ثقته في قيادات وزارة الدفاع الروسية، ورفض الغالبية من كوادر “فاغنر” الانسياق وراء توجهات وزارة الدفاع الخاصة التي أعلنتها، حول توقيع العقود مع مقاتلي كل المجموعات القتالية، والمتطوعين، ومنهم هذه المجموعة المسلحة بما يضعها تحت إمرة وزارة الدفاع، “ما كان لا بد أن يسفر عن تصفيتها وضياع خبراتها وما تملكه من قدرات عسكرية”.
تصحيح الأوضاع
وذلك يعني ضمناً أن القيادة العسكرية الروسية كانت في سبيلها إلى تصحيح الأوضاع، والتخلص مما يبدو أشبه بـ”الميليشيات العسكرية التي تناثرت على جسد التشكيلات العسكرية الرسمية”، على حد تعبيرها، بما تطلب تقنين وجودها ولم شملها تحت قيادة عسكرية موحدة، تفادياً للسقوط ثانية في شرك أخطاء المرحلة الأولى من “العملية العسكرية الروسية” التي اعترفت بها موسكو الرسمية. وكانت القيادة الروسية اتخذت قرارها بإعادة تشكيل النسق الأعلى للسلطة من خلال لجنة قيادية يرأسها فاليري غيراسيموف، رئيس أركان القوات المسلحة الروسية مع أربعة نواب، منهم الجنرال سيرغي سوروفيكين الذي سبق وعهدت إليه موسكو قيادة عمليات الجبهة، تقديراً من جانبها لما أثبت من “قدرات هائلة وتميز وفرادة خلال قيادته للقوات الروسية في سوريا”.
ومن اللافت في هذا الصدد، أن ما أقرته موسكو الرسمية من خطوات على طريق تصحيح المسار، وتحقيق أكبر درجة من الانضباط والتنسيق بين وحدات “القوات الروسية” لم يكن ليناسب وعلى ما يبدو، يفغيني بريغوجين الذي لطالما استمر “التغريد خارج السرب”، و”الحركة خارج السياق”، وما حقق من “ثراء طائل”، استناداً إلى ما أبرمه من “عقود واتفاقات” في كثير من المجالات، ومنها النفط والغاز واستخراج الذهب في سوريا وليبيا والسودان وغيرها من البلدان الأفريقية، وهو السجين السابق الذي بدأ حياته العملية مع زوج أمه بائعاً في عدد من أكشاك السندويتشات في شوارع سان بطرسبورغ، قبل أن يتحول إلى صاحب عدد من أفخر مطاعمها، سرعان ما انتقل إلى “المورد الرئيس” للأغذية إلى مؤسسات وزارة الدفاع والمؤسسات التعليمية، ليس في سان بطرسبورغ وحدها.
ولعل ذلك كله، وما كان يقترب به من مواقع واتصالات مع الرئيس بوتين منذ سنوات الإقامة المشتركة في سان بطرسبورغ، أسهم في خلق الصورة التي عرفه عليها العالم والدوائر النافذة من شهرة ومكانة. أما عن التشكيلات العسكرية التي بدأت قيادات وزارة الدفاع في العمل من أجل لم شملها، بما يحقق التنسيق بين قياداتها، فتضم إلى جانب وحدات القوات المسلحة، كلاً من “الحرس الوطني” الذي يترأسه فيكتور زولوتوف (أحد كبار ضباط الحراسة الشخصية للرئيس بوتين)، و”كتيبة أحمد” الشيشانية التي يشرف عليها الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف وعدد من أبرز وأخلص رجاله، ممن يلتزمون بكل أشكال الانضباط والولاء للدولة الفيدرالية، وللرئيس بوتين شخصياً، على عكس تشكيلات “فاغنر” التابعة لزعيمها بريغوجين بكل ما يتسم به من هوس قيادي، وذلك إلى جانب وحدات الأمن والاستخبارات والوحدات الخاصة التي تدخل في صميم القوة الضاربة للدولة الروسية، بما يبشر بنتائج مغايرة في الفترة القريبة المقبلة، ثمة ما يشير إلى أن نهاياتها قد تكون في بيلاروس، حيث بدأت سلطاتها في إعداد الملجأ والمأوى لمن يريد من فصائل “فاغنر”.